الصومال.. تفاعل القبيلة والحركات الإسلامية

كل قبيلة إسلامية لها قبيلتها

لم ينجح الإسلام تاريخيا في أن يكون عنصر حشد للمجتمع الصومالي، ولم يستطع التغلب على النزعة العشائرية للمجتمع الصومالي. لذا معظم النشاطات الإسلامية حتى المعاصرة منها مثل المحاكم الإسلامية تميل إلى أن تكون منظمة من قبل القبيلة وبالمعايير العشائرية للمجتمع الصومالي.

حتى ثورة “الدراويش”، وهي أكبر ثورة إسلامية ضد الاستعمار في الصومال، أعقاب القرن 18 ومطلع 19، والتي قادها السيد محمد عبد الله حسن، أضعفت بسبب الحزازات العشائرية، وتعاون بعض الصوماليين مع المستعمر ضد الثورة من منطلق قبلي بحت. ولذلك فالصوماليون لم يجمعوا على السيد محمد كبطل قومي.

كان نظام سياد بري وقبيلته يرون في الحركات الإسلامية المعارضة واجهة للقبائل المعارضة للنظام أكثر منها “صحوة دينية”. وكان له ما يبرره ففي الغالب، وهو أن الانتماء للحركة في هذا الوقت يعني إعلان التذمر من الحكم القائم، ومعارضته أكثر مما كان يعني الولاء الأيديولوجي البحت. ولذلك كان أتباع هذه الحركات من قبائل الأقليات، التي تقطن حواضر المدن والمناطق الزراعية في الجنوب، نادراً أو منعدماً، وكذلك الحال مع قبائل الدغل ومرفله. وحسب أحد كوادر الحركة فإنه عند سقوط النظام لم يكن في عضوية “الاتحاد الإسلامي” من المريحان ما يزيد عن عشرة أفراد.

التنافس القبلي داخل الحركات الإسلامية

في داخل كل حركة هناك صراع قبلي خفي، قد لا يظهر لغير الصوماليين، ففي “الاتحاد الإسلامي”، أيام سياد بري، نشبت معركة خفية بين قبائل الهوية والدارود، عندما شعر أبناء الهوية أنهم مهمشون بسبب قدرة المجرتين السيطرة على زمام الأمور في الحركة الإسلامية، لاستخدامها كرأس حربة لمواجهة حكم سياد بري.

في العام 1988 حدثت مواجهات عنيفة بين الحكومة الصومالية وجبهة “الحركة الوطنية الصومالية” في الشمال؛ والتي كانت تمثل الإسحاقيين، ودمرت الحكومة وقتها مباني الأهلي في مدن الشمال بالطائرات. وطلب الشباب الإسحاقيون من “الاتحاد الإسلامي” بدء الجهاد الموعود لتحرير البلاد من هذا الطاغية، وإعادة الحكم إلى يد الشعب المسلم، ولكن مجلس شورى الاتحاد رفض ذلك وطلب منهم عدم الدخول في المواجهات الدائرة باعتبارها فتنة، وعليهم تجنب الفتنة. وأدى ذلك إلى خروج الكثير من كوادر الحركة في الشمال، وعودتهم إلى حركتهم الأصلية “وحدة الشباب الإسلامي”.

في العام 1991، وبعد انهيار الدولة الصومالية، كان شباب “الدارود” من الاتحاد الإسلامي قد تفاهموا مع زعيم عشيرتهم “مورجان” على الدفاع عن مدينة كسمايو ضد عيديد، على أن تكون بعد ذلك إمارة إسلامية. ووجهت قيادة الاتحاد الإسلامي في مقديشو وفداً لتحييد معسكر الاتحاد، وإقناعه بعدم المشاركة في المعارك بجنب قبيلته، وكان على رأس هذا الوفد حسن طاهر أويس وحسن علسو، وسمح عيديد لوفد العلماء بالتفاوض مع مليشيات الاتحاد في كسمايو، ووافق على عدم التعرض لهم إذا لم يشاركوا في المعركة، لكن الشباب رفضوا الانصياع. وقاتلوا بجانب قبيلتهم حتى هزموا، وكان إبراهيم حاج جامع (الأفغاني) من المشاركين في هذه الحرب. وأثناءها خرج من الاتحاد حوالى خمسين من أعضائه، معظمهم من قبيلة الهوية، وكان أبرزهم الشيخ حسن علسو محمد، وذلك احتجاجاً لما فعله أبناء الدارود من الحركة.

كان التأصيل الديني أنه لا يجوز ومخالف للسنة، وقد يبرره البعض بأن الفكرة جاءت من قبل علماء كانوا حينها في السعودية وتأثروا بالفكر “الربيعي”، إلى جانب أن بعض العلماء في مقديشو اقتنعوا بها. ولكن أبناء الحركة، من الذين أنشئوا المعسكرات، فسروا الأمر بطريقة أخرى لها اعتبارها في المحيط القبلي السائد، وهي أن هؤلاء العلماء من الهوية استشعروا أن وجود المعسكرات سيؤدي في النهاية إلى سيطرة الدارود على الحركة، وزيادة قوتهم العسكرية فيها، لا سيما وأنه لم يكن ممكنا أن يقيم الهوية معسكرات مماثلة في مناطقهم، لأن “زعماء الحرب”، من أمثال عيديد، ما زالوا في قوتهم، ولا يسمحون بتأسيس قوة عسكرية أخرى، وينظرون إلى هذه الحركات نظرة ريبة.

حركة الشباب

تعتبر حركة “شباب المجاهدين” في الغالب بعيدة عن القبيلة، ولكن يلاحظ المراقب أن الانضمام إليها ودعمها يأتي من منطلق قبلي. ففي البداية لقيت الحركة دعما واحتضانا من قبل فخيذة عير من عشيرة الهبرجذر، بسبب تعاطف الشيخ حسن طاهر أويس معها، وانتماء قائدها العسكري أدم حاشي عيرو، وكلاهما ينتميان إلى نفس الفخيذة.

ووجدت القبيلة مرتعا خصبا في مناطق سيطرة فخيذة عير، في شبيلي السفلى، وتحالفت مع زعيمها يوسف إنطعدي، الذي أفسح لهم المجال لإنشاء المعسكرات في المنطقة التي يسيطر عليها. وبعد صعود نجم المحاكم الإسلامية، التي كانت تتهم من الأبغال بأنها حصان طروادة عيري للسيطرة على الصومال، كانت الشباب أبرز الحركات المسيطرة عسكريا.

من تحالفات الاشتراكية إلى القبائل الغسلامية

ولكن البنية القيادية فيها وتشكيلاتها بعيدة عن القبلية، بالرغم من أن القبائل تستخدمها للاستقواء بها في الغالب، ولا سيما تلك التي تجد أنها ضعيفة لا تستطيع مجابهة القبائل الكبرى، ويلاحظ هذا الأمر في جميع المناطق والمحافظات.

التفاعل الديناميكي بين القبيلة والحركات الإسلامية

– إن الحركات الإسلامية الصومالية، وإن كانت لا تعترف بالقبيلة رسميا، بل وتزعم في أدبياتها أنها تسعى إلى إخراج الشعب الصومالي من عقلية القبلية، تراها تنغمس في القبلية بنسب متفاوتة وطرق مختلفة.

– إن الانقسامات التي تحدث بين الحركات في غالبها ذات أساس قبلي.

– إن الواقع الموجود في الصومال لا يسمح لهذه الحركات بالوجود خارج إطار اللعبة القبلية وتحالفاتها.

– عندما تستجيب هذه الحركات للواقع وتتعامل معها تنجرف في هذا الواقع بالقدر الذي يناقض مبادئها الأساسية.

وهذا كله يشير إلى إشكالية بين مرجعية هذه الحركات الإسلامية وواقعها الحالي، مما يؤدي إلى فقدان هذه الحركات المصداقية سواء في ما بينها أو من قِبل الشعب الصومالي، بأن هذه الحركات والتنظيمات، ولا سيما إذا نظرنا إلى التحالفات وتغيير الولاءات المستمر بين المنتمين إلى هذه الحركات. وقد يجد المرء شبهاً بين الأسماء الإسلامية البراقة لهذه الحركات، وتعاملها مع القبيلة، وانغماسها فيها وأسماء الجبهات التي كانت تحمل أسماء وطنية براقة، والتي قادها أمراء حرب كانوا زعماء لقبائلهم في بداية الحرب الأهلية وأدت فيما بعد إلى كل ذلك الدمار الذي لحق بالصومال.

هنا يبرز سؤال مهم إلى السطح: هل يعيد الإسلاميون مأزق الجبهات القبلية بعد انهيار الحكم المركزي 1991.؟ وهل يصح أن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟ وللإجابة على هذا السؤال علينا ملاحظة أمرين مهمين:

1- اختلاف ضرورات تأسيس هذه الحركات الإسلامية عن ضرورات تأسيس الجبهات القبلية في التسعينات. فالحركات الإسلامية لم تؤسس في غالبها على الأقل من منطلق قبلي، إنما حملها الواقع وتقلباته على التعامل معها، مما أدى إلى انحرافات عن أهدافها الحقيقة. بينما الجبهات القبلية، وإن حملت أسماء وطنية تأسست أصلا من منطلق قبلي ولحماية مصالح القبيلة سياسيا وكان كل فرد من كل قبيلة يعرف ما هي الجبهة التي ينتمي إليها ويجب عليه دعمها.

2- إن هذه الحركات لها مرجعيات في الوطن العربي، تكتسب منها شرعية وجودها، فالإخوان المسلمون يمثلهم رسميا “حركة الإصلاح الإسلامية”، والسلفيون يمثلهم “الاتحاد الإسلامي”، الذي حول اسمه إلى “الاعتصام بالكتاب والسنة”، والسلفية الجهادية يمثلها “حركة الشباب المجاهدين”.

كان في بداية انهيار الدولة الحماس القبلي، لدى المجتمع الصومالي، في أشده، وكل قبيلة كانت تحس أنها بالحسم العسكري ستصل إلى ما تريد. وكان الجهل بأضرار القبيلة والقبلية متفشيا.

لذا كان من السهل حشد الجماهير مثقفيهم وعامتهم باسم القبيلة. وكان يسيرا على الجبهات أن تجد الدعم المالي والمباركة الكاملة من شيوخ القبائل، بل مبايعتهم لها موكلين عنها لحماية مصالح القبيلة.