العراق برمته ينتظر رائعة غنائية

النص الغنائي الآن بين أنامل محسن فرحان المرتجفة، وثمة من سيجلب له العود إلى كرسيه المتحرك، بينما تاريخ من الأسى ينبض في أعماقه. ليس حسين نعمة وحده من ينتظر لحن محسن فرحان ليصالح به جمهوره، بل العراق برمّته ينتظر رائعة غنائية علها تولد ونعلقها في قلادته الفضية التي أراد المتخلفون تقطيعها.

منذ أن علّق الموسيقار محسن فرحان غربة الروح في قلادة الغناء العراقي النادرة منذ خمسين عاما، بقي النغم باهرا ولم يصدأ العقد الفضي، وكلما شاعت الرثاثة لاحقا كان هناك من يعيد التذكير بتعليق قلادة الغناء الفضي العراقي، وبقي محسن فرحان من صاغتها البارعين، يدور على أوتار القلب.

نجح أيّما نجاح في لحن “غريبة الروح” الأغنية التي كتبها جبار الغزي شاعر قروي هاجر إلى بغداد وخذلته الدنيا برمّتها، فالتاع مناجيا غربة الروح على صوت أمه، وأكتشف محسن فرحان روح النص فارتقى بموسيقاه، وبقي صوت حسين نعمة يكابر في هذه الأغنية كلما أوجعه اللوم، وكلما ذهب بعيدا لا يملك إلا أن يعود إلى أغنيته العتيقة المتجددة “غريبة الروح” من أجل أن يبقى الحبل السري مشدودا بين صوته والقلوب الهائمة، بل ان التاريخ الغنائي صار يؤرخ لحسين نعمة ومحسن فرحان بـ”غريبة الروح” مع أنهما قدما عشرات الأغاني غيرها.

محسن فرحان من جيل تعبيري صنع أغنية البيئات العراقية مع محمد جواد أموري وفاروق هلال وطالب القره غولي وعبدالحسين السماوي، فبرع أيّما براعة في مرحلة لحنية معبرة في صوت سعدون جابر، يكفي تذكر “عيني عيني” و”البارحة” “لا تصدق ال يحكون”، وهو أيضا من ارتقى بصوت قحطان العطار وجعله علامة فارقة بالغناء العراقي في “يكولون غني بفرح” و”لوغيمت دنياي” قبل أن يخذل العطار جمهوره ويغيب.

لا يملك محسن فرحان اليوم غير حس التأمل الصامت لأنغام محتدمة في داخله بعد أن رحلت شريكة الروح، وخذله العمر والمرض، لكن من قال إن الأنغام تشيخ، إنها تينع كلما مر العمر شاحبا أو مورقا. وهكذا وجد حسين نعمة في أوراقه العتيقة نصا غنائيا ملتاعا للشاعر بشير العبودي أحتفظ به منذ عقود، هو بمثابة تجسيد لعمر مر يطوف على الأغاني وحدها.

أخذ “أبوعلياء” النص وذهب إلى “أبوميديا” قبل أيام على أمل إعادة الروح إلى الأغنية العراقية ومنع العقل القبوري من دفنها في المراثي الطائفية والنواح.

قرأ لي حسين نعمة نص العبودي عبر الهاتف عبر آلاف الأميال بين الناصرية ولندن، وقال هذا ما يختصر تاريخا من الحلم والأسى للكمانات الحزينة، عرضته على محسن فرحان من أجل أن يوقد شمعة آخر العمر في أغنية توأم لغريبة الروح بعد كل تلك السنين.

النص الغنائي الآن بين أنامل محسن فرحان المرتجفة، وثمة من سيجلب له العود إلى كرسيه المتحرك، بينما تاريخ من الأسى ينبض في أعماقه. ليس حسين نعمة وحده من ينتظر لحن محسن فرحان ليصالح به جمهوره، بل العراق برمّته ينتظر رائعة غنائية علها تولد ونعلقها في قلادته الفضية التي أراد المتخلفون تقطيعها.