الكثير من الرأسمالية والتجارة الحرة والقليل من الأخلاق

صندوق النقد الدولي أحيا نظام العبودية من جديد وأعدم الأخلاق الإنسانية بالكامل.

وقع في يدي كتابان أحدهما لديفيد جريبر بعنوان "الدين" بفتح الدال وجمعها ديون، والثاني ليانس فاروفاكيس بعنوان "حديث مع ابنتي حول الاقتصاد". يرى جريبر في كتاب "الدين" أن الضحية الأولى لصندوق النقد الدولي هي الأخلاق، بينما يرى فاروفاكيس في الكتاب الثاني أن الضحية الأولى للرأسمالية هي الإنسان والإنسانية.

نبدأ بالكتاب الأول لجريبر حيث قام بتحليل تاريخي لفكرة الديون التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول الفقيرة، وكانت الضحية الأولى هي الأخلاق. أما لماذا استخدم كلمة يفرضها؟ هل الدول الفقيرة مجبرة على الاقتراض من صندوق النقد الدولي؟ يرى جريبر أنها لم تجبر بالقوة، بل بالعصا والجزرة والدعم السياسي لأنظمة الحكم القائمة. فأصل الحكاية أن الدول المتقدمة صار لديها فائض نقدي كبير، وكان يجب عليها أن تستثمره من خلال الربا، أي القروض وفوائدها، فأنشأت صندوق النقد الدولي الذي طفق يروج له في الدول الفقيرة، وارتبطت الديون بشروط قاسية، أدت إلى موت الآلاف في مدغشقر حيث كان جريبر يقوم بحملة إغاثة طبية هناك، وقد أوشكت الحملة على القضاء على الملاريا. ولكن ظهور الصندوق والإجراءات التقشفية ورفع الرعاية الطبية المجانية أدى إلى فشل الحملة.

يبرز جريبر التناقض الذي مارسته الدول المتقدمة، حيث أنها فرضت على الدول التي هاجمت دولا أخرى كألمانيا والعراق دفع تعويضات هائلة عن الضرر الذي تسببت به الدولتان نتيجة اعتدائهما على الغير، في حين أن هذه الدول نفسها اعتدت على جميع دول العالم الثالث لم تدفع دولارا واحدا كتعويض لاعتدائها، لا بل أمعنت في إغراقها بالديون وتركتها تحت رحمتها. ويتابع جريبر، لو فرضنا أن العملية تجارية بحتة، فإن البنوك عادة تتحمل جزءا من مخاطر الدين في حالة فشل مشروعات المدين، كما يسمح له بإعلان الإفلاس فتقوم البنوك بحكم القانون باتخاذ إجراءات معينة للتخفيف عن المدين. أما في حالة مديونية الدول للصندوق، فإن الدول المدينة مشنوقة بالشروط ولا يتحمل الصندوق أية مخاطر ولا يوجد مخرج بإعلان الإفلاس. وفوق هذا وذاك، فإن الدول الفقيرة مجبرة على فتح حدودها أمام التجارة الحرة، حتى لو أدى ذلك إلى نزع مصادر رزق الشعوب ونشاطاتهم الاقتصادية. إن صندوق النقد الدولي أحيا نظام العبودية من جديد، وأعدم الأخلاق الإنسانية بالكامل.

أما فاروفاكيس في كتاب "حديث مع ابنتي حول الاقتصاد" فإنه يرى أن الضحية الأولى للرأسمالية هي الإنسان نفسه، لأن الرأسمالية حولت كل شيء إلى سلعة حتى الإنسان، وفرضت نظام التنافس المحموم بين المنتجين بحيث أصبح لا يوجد شيء غير قابل للبيع. ويورد فاروفاكيس في إحدى محاضراته أنه في إحدى الدول كان التبرع بالدم ناجحا إلى حد كبير، والمتطوعون كثر وحدث ذات مرة أن الدولة التبرع بالدم مدفوع الأجر، وكانت النتيجة مفزعة، حيث انخفض التبرع إلى أقل من النصف، مما يعني أن المال قتل الإنسانية وحب فعل الخير دون مقابل.

يفسر فاروفاكيس هذا الانحراف في الطبيعة البشرية بإنتاج الوفر من البضائع سواء الزراعية أو الصناعية. حيث ارتبط الوفر بالحركات الاستعمارية، وكان الاتجاه من الشمال إلى الجنوب، وقتل في هذه الحملات غالبية السكان الأصليين وعددهم مئات الملايين في العالم الجديد: أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا. ويرفض فاروفاكيس فكرة التفوق العرقي كليا، إذ أن سكان القارات الأخرى غير أوروبا لم يفكروا بالتوسع شمالا، بل كانت الحركة من الشمال إلى الجنوب بالكامل نتيجة الوفر في الإنتاج والبحث عن المياه الدافئة. وبهذه الطريقة جعل الأوروبيون فكرة انعدام المساواة بين البشر فكرة بديهية وعلى الجميع تقبلها وتنظيم حياتهم بموجبها. مبررين ذلك بأن الأصل في الحياة هو التباين وليس التشابه. لذا فقد جعل فاروفاكيس الرأسمالية والظلم مترادفين لأنهما قائمان على التمييز بين الناس حسب إمكاناتهم المادية. وبذلك يكون الإنسان هو الضحية الأولى للرأسمالية.

إن الكتابين وضعا بأهداف نبيلة تسعى إلى الانتصار على الظلم وإقامة العدل والمساواة بين بني البشر. ولكن الحل لا يكون باستئصال الشر فهذا غير ممكن. فمن المستحيل التصدي للدول التي تنتهج الرأسمالية والتجارة الحرة بالقوة. ولكن بمقدور الدول المتضررة من التجارة الحرة العصيان، ولا يمكن تنفيذ العصيان بشكل فردي كما فعلت العراق وليبيا فتم تدميرهما. وإذا كان رفض التجارة الحرة جماعيا، بحيث تفرض جميع الدول المتضررة ضرائب على المنتجات الأجنبية أو تغلق حدودها أمامها، لا يمكن للدول المهيمنة إدخال بضائعها عنوة في جميع الدول المتحالفة. كما أن الاقتراض من صندوق النقد الدولي ليس فرضا أو سنة، ويمكن لجميع الدول المتضررة الامتناع عن الاقتراض. أما التصرف الفردي فيعرض الدولة الممانعة إلى بطش الدول الكبرى، أو الولايات المتحدة على وجه الخصوص. ويمكن كذلك للدول المتعثرة التكامل فيما بينها دون الدول العملاقة التي تلتهم كل شيء. ولا شك أن محاولة اجتثاث الفلسفة الرأسمالية والتجارة الحرة خطيرة بالنسبة للدول المتضررة، وكل ما يمكن فعله هو الالتفاف على قوانينها، من خلال التكتل في أحلاف ما بين الدول المتشابهة من حيث القدرة الاقتصادية والتكامل الاقتصادي فيما بينها.

يبقى القول أن مشكلات الدول الواقعة تحت رحمة صندوق النقد الدولي والتجارة الحرة مركبة ومتعددة المستويات. فهناك أنظمة حكم غير ديمقراطية تسعى للبقاء في السلطة من خلال التودد للولايات المتحدة وقبول التجارة الحرة والاقتراض من الصندوق على حساب شعوبها. كما أن العلاقات بين تلك الدول غالبا ما تكون مشوبة بالريبة وعدم الثقة، فإذا اتفقت على الخروج من منظمة التجارة العالمية، فمن غير المستبعد أن تغدر هذه الدول ببعضها البعض أو تتعامل سرا مع المنظمة. ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن الشعوب لم تصل إلى مستوى مرتفع من الوعي والانسجام الثقافي بحيث تفرض إرادتها على أنظمة الحكم القائمة أو تغيرها، بالإضافة إلى التدخل السريع من قبل الدول الكبرى لدعم الجهات التي تخدم مصالحها. وبالتالي، تظل الدول الشيوعية والاشتراكية هي الناجية الوحيدة من تغول التجارة الحرة وصندوق النقد الدولي وتطوير الأسلحة والاستعداد لخوض الحروب صمام أمان لها.