اللعبة السياسية لحماية مجاهدي درنة

خسارة درنة تعني القضاء على أحد أهم الأذرع القوية التي تمتلكها الميشليات في ليبيا.

العملية التي أطلقها الجيش الوطني الليبي مؤخرا لتطهير منطقة درنة من الإرهابيين، أصابت دوائر كثيرة بالقلق، لأن هناك تصميما على غلق هذه البؤرة كمركز رئيسي لتجمع متشددين من دول مختلفة، تمهيدا لفرض المزيد من سيطرة المؤسسة العسكرية.

القضاء على هذه البؤرة، ظل عصيا، بسبب جغرافيتها الصعبة، وساحلها المفتوح لتلقي مساعدات عسكرية، وسط حظر تصدير السلاح إلى ليبيا، واستقبال متطرفين، وزيادة التمدد الذي أحرزه الإرهابيون فيها، ونجاحهم في استقطاب شخصيات قبلية مؤثرة.

قرار الاقتحام، جرى الصبر عليه طويلا، لحين تصبح الأجواء العملياتية مواتية، وتنضج الظروف السياسية. عندما طال الانتظار، تصورت جهات عدة أن درنة سوف تظل القاعدة التي تقلق الشرق الليبي، والمنغص الذي يؤرق الجيش الوطني، ورأس الحربة لتصدير الإرهاب إلى مصر، لأن المتطرفين صمدوا أمام عمليات التأديب الخاطفة التي وجهت لهم.

القدرات الكبيرة التي أصبح يمتلكها الجيش الليبي، ساعدته على عدم تأجيل قرار اقتحام درنة أكثر من ذلك. شبكة العلاقات الإقليمية والدولية المتباينة التي نسجها المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، منحته قوة سياسية مضاعفة. التوافق على ضرورة المضي في استحقاق الانتخابات، قدم دعما مباشرا للعملية العسكرية، أو على الأقل قلّص مساحة التنديد بها.

النجاحات التي تحققت على مستوى فرض إرادة الجيش الليبي وسيطرته على مناطق كثيرة جعل الباب مفتوحا إلى درنة، وكسر حدة التردد الذي أجّل القيام بالعملية الشاملة، التي سبقتها عمليات نوعية متقطعة.

الحذر المتكرر، بعث برسالة خاطئة للمتطرفين في درنة. حسبوا أن الدعم الذي يصل إليهم من دوائر مختلفة، في الداخل والخارج، سيكون رادعا للجيش الليبي أو أي قوة إقليمية يمكن أن تفكر في إنهاء أسطورة ما يسمى بـ "مجلس مجاهدي درنة".

الجرأة التي تحلت بها العملية العسكرية، فرضت على متشددي المدينة، تغيير تكتيكاتهم، بناء على نصائح جرى تلقيها من داعمين للتيار الإسلامي، تيقنوا أن الاقتحام أصبح وشيكا. خسارة درنة تعني القضاء على أحد أهم الأذرع القوية التي تمتلكها الميشليات في ليبيا. بالتالي التأثير سلبا على ورقة مهمة تمتلكها جماعة الإخوان هناك.

محاولة قطع الطريق على دخول درنة، ظهرت ملامحه مع فوز الإخواني خالد المشري برئاسة مجلس الدولة الشهر الماضي. بدأت خيوط التواصل السياسي تتمدد نحو قوى مدنية وعسكرية، كانت الجماعة تناصبها العداء طوال السنوات الماضية. على أمل عقد تحالفات تطوي الصفحة الماضية القاتمة وتفتح صفحة ناصعة.

الخطة انطلت على البعض. تجاوبوا معها. أكلوا الطُعم الذي ألقي إليهم عبر شخصيات عديدة. لكن هناك فئة كبيرة لم تنطل عليها المناورة، التي تكشفت معالمها مع الضجة المفتعلة التي صاحبت الحديث عن إصابة المشير حفتر بمرض خطير، قد يخرجه من المسرح الليبي برمته. من هنا جرت لقاءات وأعلن عن تفاهمات بين عناصر إخوانية وأخرى كانت في خصومة سافرة معها.

عودة حفتر سالما، جعلت من وقعوا في الفخ يحاولون الخروج منه سريعا، بحجج مختلفة. هناك من أصروا على المضي فيه لضمان وجودهم في المشهد السياسي الذي يكاد يغرب عنهم. هؤلاء جميعا أصبحوا في نظر الشعب الليبي غير مؤتمنين على بلدهم، لأنهم يغيروا ولاءاتهم كما يغيرون ثيابهم، بمجرد الحصول على فائدة مادية أو معنوية.

انكشاف ألاعيب هذه النوعية من السياسيين، قدم للمشير حفتر هدية ثمينة. عرف قطاع كبير من المواطنين أهمية الجيش الليبي كضامن للاستقرار. جاء قرار اقتحام درنة وسط ظروف داخلية مواتية، جعلته يحظى بتأييد شعبي كبير، وممانعات سياسية بدت قليلة.

في الباطن، أخذت القوى الداعمة للمتطرفين على عاتقها التفكير في البحث عن آلية لتحويل درنة إلى مأزق أمام حفتر، لأنها تعلم أن سيطرة الجيش الوطني عليها يعني سقوط أهم حصون الإسلاميين العسكرية، وتخفيض حظوظهم السياسية مستقبلا.

حيلة البقاء على الإسلاميين كقوة رئيسية في ليبيا، من خلال بوابة درنة، جاءت من زاويتين. الأولى الإعلان مؤخرا عن حل مجلس مجاهدي درنة، وتحويله إلى ما يسمى بـ "قوة حماية درنة"، بغرض إخفاء الصفة الجهادية عن الإسلاميين الذين تحصنوا في مناطق كثيرة تابعة لدرنة، وتصوير الموقف كأن الجيش الليبي يقاتل مدنيين.

عندما يتصدى المتطرفون لقوات الجيش ويسقط ضحايا في صفوف الجهاديين، يتم الترويج أنهم ضحايا من المدنيين وليسوا إرهابيين. في هذه اللحظة تندفع آلة الدعاية التابعة لدول اعتادت دعمهم لتصب الغضب على الجيش، بذريعة أنه أسرف في "قتل مدنيين".

الزاوية الثانية، تسير على خطين متوازيين. أحدهما التشجيع على عقد لقاءات بين قوى مختلفة. في المغرب وداكار وباريس، بهدف الإيحاء بأن الإسلاميين رقما أساسيا في المعادلة الليبية، ومن الصعوبة تجاوزهم أو القضاء عليهم في درنة وغيرها.

الخط الآخر، زيادة العمليات العسكرية الشرسة في طرابلس، مثل تدمير مقر مفوضية الانتخابات، على أيدي ميلشيات إسلامية، تكون كفيلة بتوصيل رسالة تشي أن عملية درنة يمكن أن تؤدي إلى خروج العناصر المتطرفة من هذه المدينة إلى منطاق أخرى. وبدلا من أن يكون مركز الإرهاب قاصرا على درنة سوف ينتقل إلى مناطق مختلفة، ما يصعب السيطرة عليه، ويجعل من فكرة الانتخابات في هذه الظروف حلما بعيد المنال.

تعميم الفوضى، يرمي إلى الحصول على مكاسب سياسية لجماعة الإخوان بصورة رئيسية، لأن خروجها خالية الوفاض في معركة ليبيا، يقضي على طموحات من لا زالوا يرادوهم الأمل في الرهان على هذه الجماعة، ورفضوا التوقف عن دعمها، وتجاهل أعمال العنف التي ارتكبتها أو وقفت خلفها أو حرضت عليها في درنة.

اللعبة السياسية لحماية هذه المدينة وترسيخها كقاعدة للإرهابيين، عملية مصيرية للقوى التي رعت الإسلاميين، بأطيافهم وألوانهم. التسليم بدخول الجيش الليبي بسهولة وفرض سيطرته على درنة، يعلن صراحة وفاة المشروع الذي أنفقت عليه دول كبيرة أموالا طائلة. يؤكد أن المؤسسة العسكرية بقيادة المشير حفتر قادرة على الوصول إلى طرابلس في الخطوة التالية. يعزز فكرة أن الجيش الجهة الوحيدة الضامنة لوحدة الدولة الليبية.