المأزق الايراني مأزق روسي ايضا

هل ايران من الغباء كي تعتقد ان روسيا جاءت الى سوريا من اجل الانضمام اليها في "تحرير القدس"؟

الأكيد ان روسيا ليست جمعية خيرية. لم ترسل قوات وقاذفات الى سوريا من اجل انقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا النظام من اجل سواد عيون بشّار الأسد او ايران. ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين عن ان وجود القوات الروسية في سوريا ينطلق "من المصلحة الروسية" صحيح. نعم، ينطلق هذا الوجود من المصلحة الروسية وليس من أي اعتبارات أخرى. هذا كلّ ما في الامر. اما لماذا لا تتصدى الدفاعات الجوية الروسية للطائرات الاسرائيلية التي تقصف أهدافا تابعة للنظام السوري او لإيران وميليشياتها في الجنوب السوري وحتّى في محيط حلب، فهذا عائد الى وجود تفاهم روسي – إسرائيلي في العمق.

هل ايران من الغباء كي تعتقد ان روسيا جاءت الى سوريا من اجل الانضمام اليها في "تحرير القدس" بعد تدمير كلّ مدينة ذات أكثرية سنّية سنّية  مثل حلب وحمص وحماة وتطويق دمشق من كلّ الجهات بهدف تغيير طبيعة المدينة وتركيبتها السكّانية؟

ليس سرّا ان ايران تمتلك الكثير من الدهاء، لكن هناك فارقا بين الدهاء والاعتقاد انّ في الإمكان استخدام روسيا في خدمة من نوع إبقاء بشار الأسد في دمشق من دون الحصول على مقابل. لا يمكن للدهاء الايراني المرور مرور الكرام على فكرة انّ روسيا لا يمكن ان تنقذ بشار بالمجان. روسيا تعمل من اجل روسيا وفلاديمير بوتين يعمل من اجل فلاديمير بوتين. لعلّ اكثر ما يتقنه الرئيس الروسي معرفة كيفية استخدام الثغرات في الولايات المتحدة. لذلك عرف كيف يضحك على إدارة باراك أوباما، خصوصا في الموضوع السوري. لكنّ الرئيس الروسي يعرف أيضا ان شيئا ما تغيّر في واشنطن وان عليه التكيّف مع وجود إدارة مختلفة على رأسها دونالد ترامب تكنّ عداء للنظام الايراني وتعمل جديا، اقلّه الى الآن، من اجل اقتلاع مخالبه المتمددة في الشرق الاوسط والخليج وحتّى في الداخل الايراني.  

يتجاوز التفاهم الروسي - الاسرائيلي كلّ ما عداه في المنطقة. لا لشيء سوى لانه ينطلق من "المصلحة الروسية" التي تحدّث عنها فلاديمير بوتين. هناك مليون مواطن روسي في إسرائيل. تعتبر موسكو هؤلاء بمثابة رأسمال لها لا يمكن ان تستغني عنه نظرا الى انّها تستطيع الاستفادة منه في مجالات مختلفة، بما في ذلك الداخل الروسي.

قبل فترة قصيرة، استُدعي بشار الأسد الى سوتشي. التقى بوتين الذي افهمه انّ على ان النظام السوري، وهو نظام غير شرعي أصلا، تفادي إضفاء الشرعية على الوجود العسكري الايراني في الجنوب السوري وفي دمشق ومحيطها. كان ردّ فعل بشار بعد عودته الى دمشق ان اتخذ موقفا منحازا لوجهة النظر الايرانية بدل تنفيذ تعليمات الرئيس الروسي. تولّى وزير الخارجية وليد المعلّم التعبير عن الانقلاب الايراني – الاسدي على روسيا. قال بالحرف الواحد ان الوجود الايراني في سوريا "شرعي" وان لا وجود لقواعد إيرانية في سوريا، بل هناك خبراء. اعترض على الجهود الروسية من اجل صياغة دستور جديد لسوريا. ذهب الى حد اعتبار التصرّف الروسي القاضي بكشف أسماء السوريين الذين يشاركون في صيغة الدستور الجديد بانّه "قلة ادب" مؤكدا ان لا حاجة الى دستور جديد ما دام هناك دستور العام 2012. فوق ذلك كلّه، نفى وجود اتفاق روسي – إسرائيلي في شأن انسحاب الايرانيين والميليشيات المذهبية التابعة لهم من الجنوب السوري. لم يستوعب حتّى ان روسيا لا تريد أي وجود عسكري لإيران وميليشياتها في دمشق نفسها. اكثر من ذلك، ربط بين الاتفاق الروسي – الإسرائيلي وانسحاب الاميركيين من التنف.

تصرّف وليد المعلّم، وهو شخص مغلوب على امره لا يؤمن بايّ كلمة تصدر عنه، وكأنّه يمثل قوّة عظمى تتحكّم بما يجب ان تكون عليه طبيعة العلاقات بين اميركا وروسيا وإسرائيل!

كان المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية التابع للنظام إشارة الى نقطة تحوّل في العلاقة بين بشّار وبوتين. ربّما نسي رئيس النظام السوري ان الرئيس الروسي انقذه صيف العام 2013 من ردّ فعل أميركي على استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها النظام على الشعب السوري. صحيح ان باراك أوباما كان يريد تفادي أي عمل عسكري في سوريا كي لا يغضب ايران التي كان يتفاوض معها في شأن ملفّها النووي، لكنّ الصحيح أيضا ان روسيا كانت من تولّى إيجاد الإخراج المناسب لعملية تخلّص النظام من مخزون السلاح الكيميائي.

عندما تطلب الامر ان يختار بشّار بين روسيا وايران، اختار ايران. يعرف جيدا ان روسيا مهتمة بالحافظة عليه في انتظار اليوم الذي تتوصّل فيه الى صفقة ما مع إدارة دونالد ترامب. امّا ايران، فهي تعرف تماما ان مستقبل علاقتها بسوريا ووجودها فيها مرتبطان بشخص بشّار الأسد. لدى روسيا خيارات سورية كثيرة غير بشّار. لديها عدد كبير من الضباط العلويين وغير العلويين درسوا في معاهدها ويتكلّمون الروسية. لديها معرفة دقيقة بالجيش النظامي السوري الذي وضع في مواجهة ثورة شعبية تردّد في قمعها. كان الدليل على ذلك ان اوّل الضباط الذين اعترضوا على قمع الثورة التي بدأت في آذار – مارس 2011  كان وزير الدفاع وقتذاك علي حبيب، وهو ضابط علوي.

ما نساه رئيس النظام ومعه الايرانيون ان التدخل الروسي في آخر أيلول – سبتمبر 2015 حال دون دخول الثوار دمشق. كانت العاصمة ساقطة عسكريا. كذلك، اقتربت المعارضة من الساحل السوري حيث الكثافة العلوية. كان على ايران الاستنجاد بسلاح الجوّ الروسي الذي نقل طائرات الى قاعدة حميميم قرب اللاذقية. باشرت هذه الطائرات قصف مواقع معينة. أدى ذلك الى تراجع الثوار في دمشق ومحيطها وفي منطقة الساحل. في مرحلة لاحقة استعاد النظام حلب في ظلّ تفاهم روسي - تركي. كان من بين بنود هذا التفاهم عدم السماح لبشار الأسد بالاحتفال بالانتصار على حلب عن طريق قيامه بزيارة للمدينة.

اعتقدت روسيا انّها تستطيع فرض اجندتها على النظام وايران. تبيّن ان العلاقة بين الجانبين اقوى بكثير، بل اعمق، مما تعتقد. انّها علاقة عضوية تفرض على بوتين اتباع استراتيجية مختلفة في حال كان يريد بالفعل المحافظة على مصالح روسيا في سوريا واستثمارها في سياق الدور الجديد الذي يظنّ انّه صنعه لبلاده.

لن يبصر مثل هذا الدور النور سوى في حال توافر حدّ ادنى من الندية بين موسكو وواشنطن. لعلّ اصعب ما يواجه فلاديمير بوتين في سوريا انّه لا يستطيع تجاهل انّ ايران تلعب في هذا البلد مستقبل نظامها بعدما وضعت نفسها امام خيارين: امّا مواجهة شاملة مع إسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من حرب مدمّرة يمكن ان تصل الى اثارها الى لبنان... او الانكفاء. مثل هذا الانكفاء يضع مستقبل النظام على المحكّ. انّه يعني الكثير بالنسبة الى ايران التي تقوم سياستها منذ العام 1979 على الهروب المستمر الى خارج حدودها.

خلّف المأزق الايراني مأزقا روسيا أيضا. كيف سيعمل فلاديمير بوتين على اخراج ايران من سوريا في ظلّ معرفته ان خروجها من دمشق يعني خروجها من طهران أيضا؟