المراكز المؤثرة في الخطاب العراقي

تتنازع القوى الاقليمية العراق لحد لم يبق أثر للوطنية فيه. رجال الدين أيضا لم يقصروا.

بداية وعند تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحين سقوط الملكية عام 1958، كان مركز التأثير الأول والوحيد في رسم السياسات الداخلية والخارجية للدولة العراقية هم الانكليز بدرجة أولى ولقد نجحوا أيما نجاح في إدارة الدولة العراقية وتوجيهها داخلياً وخارجياً. إلا أن التأثير والدور الأنكليزيين تراجعا بشدة بعد أنقلاب 14 تموز/يوليو العسكري عام 1958 بالرغم من شهادات بعضهم من أن الانقلابات العسكرية بعد سقوط الملكية كانت في معظمها إما بريطانية أو أميركية (إما بقطار انكليزي أو أميركي) وبالأخص انقلابي 8 شباط/فبراير 1963 و17-30 تموز/يوليو 1968، أي ان مركز تأثير آخر على الخطاب العراقي إلى جانب التأثير البريطاني ظهر في العراق ألا وهو التأثير الاميركي.

بعد حرب الخليج الثانية واحتلال الكويت من قبل صدام حسين فان التأثير والدور الأميركي بات اكثر وضوحاً وفاعلاً على مسار الأحداث العراقية. وفي 9 نيسان/أبريل 2003 أزاح كل التأثيرات بما فيها التأثير البريطاني. غير أنه سرعان ما ظهر مؤثر آخر وقوي مناهض للمؤثر الأميركي في العراق وفي العام نفسه، إذ ظهرت ايران كقوة مؤثرة وجد فاعلة منافسة للتأثير والتواجد العسكري الأميركي في العراق – وما زال يشكل تهديداً كبيراً للتأثير والنفوذ الأميركيين في العراق. ومنذ ذلك العام فأن الصراع على العراق أميركي وايراني بدرجة أولى عدا عن كون إيران طرفاً رئيسياً في صراعات اقليمية ودولية أخرى وبالأخص في سوريا ولبنان والبحرين واليمن وفلسطين. ولا شك أن أي صراع دولي على بلد ما دليل على ضعف الحركة الوطنية في ذلك البلد، وفي حال تعدد المتصارعين فان الوطنية فيه تكون أضعف فأضعف.

أضعف الصراع الأميركي الأيراني العراق كثيراً إلى حد أنه مزقه مما مهد لظهور قوى ومراكز مؤثرة أخرى في الشأن العراقي إلى جانب المؤثرين الاميركي والأيراني، منها مراكز تأثير داخلية عراقية، المرجعية الدينية العليا في النجف والتيار الصدري على سبيل المثال، ومنها أقليمية مثل تركيا والأردن والسعودية وبدرجات متفاوتة. ولعل تأثيرات هذه الدول تبقى ثانوية مقارنة بالتأثيرين الأميركي والأيراني. وتجسدت التأثيرات التركية مثلاً في وقائع عدة مثل احتضان تركيا لقوى سنية معارضة وقيام المعارضة السنية العراقية بعقد لقاءات واجتماعات ومؤتمرات لها في أنقرة واسطنبول، وتسجيل شكوك على قادة بارزين من السنة المعروفين مثل أسامة النجيفي في زياراته المتكررة الى تركيا ولجوء الشخصية السنية البارزة طارق الهاشمي إلى تركيا ايضا قبل أعوام وإقامته إلى يومنا هذا فيها. ومن الممكن القول أن تركيا تستعين بالسنة الموالين لها في أمرار سياساتها ومصالحها في العراق وتثبيت نفوذها فيه. وفضلاً عن السنة العراقيين فأن لتركيا قاعدة اجتماعية في العراق تتمثل في التركمان، هذا إضافة إلى جملة من الأتفاقيات التي وقعت بعد تأسيس الدولة العراقية بين تركيا والعراق والتي كبلت العراق وانتقصت من سيادته واستقلاله وجعلته يرتبط بعلاقات غير متكافئة مع الدولة التركية مثل احدث اتفاقية بينهما ألا وهي الاتفاقية العسكرية الموقعة بينهما في عام 1983 والتي تسمح للدولتين بمطاردة معارضيها داخل الدولة الأخرى ولمسافة بين 15كم إلى 30كم، علماً ان البيشمركة من الكرد العراقيين لم يقوموا قط في يوم من الأيام باتخاذ تركيا قاعدة انطلاق ضد العراق هذا في وقت نجد فيه أنه بامكان العراق الخروج من هذه الاتفاقية بسبب من أنها غير مسجلة لدى منظمة الأمم المتحدة، والتي تحولت فيما بعد (الأتفاقية) إلى ذريعة استغلتها تركيا من بين ذرائع اخرى لاحتلال مساحات واسعة من اراضي شمال كردستان العراق على الحدود العراقية – التركية واقامة قواعد ومراكز عسكرية فيها. وفوق هذا وذاك فأن تركيا تشن حرب مياه على العراق وسوف تشتد هذه الحرب في القادم من الأيام ولقد جرت العلاقات التركية – العراقية غير المتكافئة إلى توقيع اتفاقيات تجارية واقتصادية بين البلدين ولصالح تركيا بدرجة رئيسة. أكرر ان العلاقات التركية – العراقية العسكرية منها والتجارية الأقتصادية لم تكن وما تزال غير متكافئة ولصالح تركيا طبعاً وعلى الضد من مصلحة الشعوب العراقية والتأثير التركي على سنة العراق يفوق التأثير العربي عليه منذ عام 2003. لقد أفل التأثير المصري والسوري (الناصري بالأخص) على العراق وحل محله التأثير التركي، وتوجه السنة اليوم ومنذ نحو عقدين نحو آنقرة وليس القاهرة كما كان في السابق، وصارت تركيا عمقاً للعرب السنة وهي بمثابة وطن ثان لهم، ومثل هذا الأمر عمق من التأثير التركي على مسار الاحداث في العراق إلى حد التأثير في التفاصيل ومن الأمثلة ان تركيا وحسب صحيفة "الأخبار" اللبنانية هددت بقطع التمویل عن "تحالف القوى" العراقي السني فی حال عدم اعادة النائب أحمد المساري الى رئاسة الكتلة النیابیة السنیة (اتحاد القوى)!

ما مر یصح اطلاقه على ايران ايضا فعلاقتها مع العراق اشبه ما تكون بعلاقة السيد (ايران) بالعبد (العراق) والأسباب كثيرة لا محل لذكرها هنا. ونرى أن الولايات المتحدة تغض الطرف عن الدور والتأثير التركيين وتركز فقط على الدور والتأثير الايرانيين على العراق، وكل من التأثيرين أخطر على العراق من الأخر. فايران تحتل جنوب العراق وكذلك كل بقعة في العراق يقيم فيها الشيعة، مثلما تحتل تركيا مناطق واسعة من الارض العراقية على الشريط الحدودي التركي – العراقي. ان التأثير الأيراني على مسار الاحداث في العراق وعلى القرار بلغ مرتبة صح القول فيها ان الجزال قاسم سليماني هو الحاكم المطلق للعراق.

عدا المؤثرين التركي والايراني، هناك مؤثرات اقليمية اخرى على العراق كالمؤثر الأردني الذي ينفذ بمباركة وامر اميركيين في رأيي. لذا لا غرابة ان نلقى معظم المعارضة السنية تتخذ من الأردن مقرا، ومنطلقا لنشاطاتها واجتماعاتها ويشكل حزب البعث العربي الاشتراكي المحظور في العراق القسم الأكبر من المعارضة السنية العراقية في الأردن ومن اشهر اعضاء الحزب المذكور في الأردن هي رغد صدام حسين. وهناك خيط يجمع بين الثالوث أميركا الأردن، البعث اذا علمنا ان للبعث تأريخ عريق يربطه بالتوجهات الأميركية، والأردن يسير في الركاب الاميركي كما نعلم. ونرى القوى الشيعية الحاكمة في العراق تتجنب اثارة التأثيرين الاميركي والأردني على العراق لارتباط تلك القوى نفسها باميركا التي اوصلتها عام 2003 الى الحكم وعلى ظهر دباباتها (الاميركية) وفي الحالة العراقية ان الحكومات العراقية، يمينية كانت أم يسارية ام معتدلة، عروبية كانت ام اسلامية، سنية، أم شيعية ومن ايام العهد الملكي، فأن عليها مراعاة المصالح التركية والأردنية حتى اذا كانت على حساب المصلحة العراقية. ان الحكومات العراقية منذ العهد الملكي دخلت في صراعات حادة مع كثير من دول المنطقة، الكويت، السعودية، سوريا، مصر...الخ، إلا انها لم تدخل في أى صراع يذكر مع كل من الدولتين، تركيا والأردن إلا نادراً. وبالرغم من المشاركة الرمزية والفعلية للأردن في الحرب على إيران 1980-1988 وقيام الملك حسين باطلاق قذائف مدفعية باتجاه إيران، إلا ان النظام الشيعي العراقي منذ مجيئه للحكم في العراق عام 2003 فان علاقاته مع الاردن لم تختلف في شيء عن علاقات النظم السنية السابقة به (بالأردن) والقول عينه يصح سحبه على العلاقات مع تركيا.

إن أية حكومة تتسلم السلطة في العراق ان ابقت على علاقات الحكومات السابقة مع تركيا فمعنى ذلك انها اميركية، واتحدى الحكومة العراقية الحالية اذا انبرت وتصدت للاحتلال التركي لشمال اقليم كردستان العراق او احتضان الأردن للمعارضة السنية. وهكذا يبدو ان من شروط الدعم الاميركي للحكومات العراقية الآن وفي السابق كذلك، ان تكون الحكومة العراقية في رسم الخدمة والطاعة لتركيا والأردن في آن معاً، بل وان تكون على علاقة قوية مع الدول العربية التي تشدها علاقة قوية وجيدة مع اسرائيل والولايات المتحدة.

ودخلت مصر في عهد السادات على خط العلاقات الحسنة مع اسرائيل حين اعترفت بالاخيرة واقامت معها علاقات دبلوماسية اضافة الى علاقات اخرى، لذا فانها سرعان ما كوفئت ودعمت من قبل العراق الذي احتضن نحو 3 ملايين مصري بهدف انجاح العلاقة الجديدة بين مصر واسرائيل واستمرت العلاقة بين العراق ومصر بعد زوال النظام السني في العراق وحلول النظام الشيعي محله ويخطيء من يعتقد ان الانفتاح العراقي على العمالة المصرية حصل لملء الفراغ الذي احدثته الحرب العراقية الايرانية في مرافق الدولة العراقية. فلو كان العراق يريد حقاً ملء الفراغ ذاك، لكان باستطاعته الاستعانة بالعمالة السورية واللبنانية والأردنية والفلسطينية وهي الاقرب الى العراق من العمالة المصرية التي اقبلت من القارة الافريقية. ان التحويلات المالية للعمالة المصرية من العراق الى مصر ساعدت في إنجاح التطبيع بين مصر واسرائيل هذا هو التفسير الوحيد للعلاقة بين العراق ومصر واي تفسير مغاير فأنه لعلى خطأ وبفضل اعترافها (مصر) باسرائيل فأنها اصبحت في منزلة تركيا والأردن لدى الولايات المتحدة.

إلى جانب المؤثرات الدولية والأقليمية في القرار والمسار العراقي هناك في الداخل العراقي مؤثرات برزت بعد عام 2003 ألا وهي المرجعية الدينية العليا في النجف التي صارت في بعض من الأمور فوق البرلمان والحكومة والاحزاب والنقابات. اذ ما معنى الرجوع إليها واطاعة اوامرها، علماً ان الدعوة الى عزل الدين عن السياسة والحكومة تشملها ايضاً وبقوة، لكن ليس هناك من أحد يتجرأ على قول الحقيقة بحق المرجعية التي لم تسجل موقفاً يذكر لدعم القوميات والطوائف غير الشيعية المقهورة في العراق، بل ويؤخذ عليها وهو الانجاز الوحيد لها تأسيسها وتبنيها لميلشيات الحشد الشعبي التي هي نسخة طبق الاصل للحرس القومي والجيش الشعبي البعثيين.

يلي مقتدى الصدر، وتياره الصدري، المرجعية الدينية في النجف في التأثير سلباً على الأحداث العراقية الذي راح يؤثر فعلاً على الوسط السياسي في العراق. والذي يلاحظ في تأثيرات الصدر ان اغلب طروحاته تتناقض مع القانون والدستور والاعراف والتقاليد السياسية، علماً ان مضمون ما يطرحه ينسجم والطروحات الايرانية في وقت يدعي فيه انه ضد ايران. وآخر ما صدر عنه عدد من القرارات والشروط بشأن تشكيل الكتلة البرلمانية الاكبر وشخص رئيس الوزراء العراقي المقبل. ويرى الجميع انه أربك المشهد السياسي بتلك الشروط.

واخيراً وليس آخراً ها هو المرجع الديني محمد جواد الخالصي ليضيف مركز تأثير ديني على الاحداث العراقية بعد السيستاني والصدر.

ان خطورة مراكز التأثير الداخلية لا تقل عن خطورة مراكز التأثير الاقليمية، وان تعدد المراكز الدينية وتأثيرها على الوضع السياسي ان دل على شيء فأنما يدل على مدى الضعف الذي انتاب وينتاب القوى العلمانية في العراق.