الوعاظ وبيت المَعري: «النَّاسُ بالنَّاسِ»

تكلموا ما شئتم في المعري، لكن ليس من الحق والدِّين والبحث العلمي والأدبي أن تزينوا كتبكم وخطبكم ومواعظكم بكلامه وتتنكرون لاسمه.

يكاد لا يخلو كتاب أو وعظ ديني، خصوصاً ما يتعلق بالتَّعاون الإنساني، لإبراز الجانب التَّربوي في الدِّين، إلا واُستشهد ببيت: «الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ/ بعض لبعض وإن لم يُشعروا خدمُ». السُّؤال: لماذا تؤخذ حكمة الشاعر ويُهمل اسمه ويُصر على كفره، لم يبحث فقيه ولا واعظ لتوثيق البيت (الحِكمة)، ليُصحح خطأ روايته المتداولة، وينسبه لصاحبه؟!

وظف البيت كثيرون، منهم على سبيل المثال: صاحب «موسوعة فقه الابتلاء»، وصاحب «شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين»، وصاحب «شرح بلوغ المرام» في تفسير حديث «مَن أسلف في تمرٍ فليسلف في كلِّ معلوم»، وصاحب «مجموع رسائل الجامي في العقيدة والسُّنَّة». كذلك وظفه ضيف البرنامج الوعظي «ديناً قيماً»، أحد المشغولين بالإعجاز العلمي للقرآن، ففي إحدى الحلقات استهل حديثه بالبيت، وعده حكمةً مهمة، لكنه حجب اسم قائله. أما أحد مقدمي البرامج، كداعية إسلامي بطريقته، فيترحم على المتنبي (اغتيل 354هـ) لقوله البيت المذكور، بلا عناية ودراية.

لا يمنع أن يُذكر بيت شعرٍ مسبوقاً بـ«كما قال الشَّاعر»، والكثير منهم لا يقولوها، لكن هذا يحصل مع بيت مجهول، لمرة ومرتين، أما أن البيت يجري على ألسنة عشرات الوعاظ، ولم يُذكر فضلاً لقائله، فالأمر لا يخلو من موقف مسبق. فمن المعلوم أن الفقهاء والوعاظ المعاصرين لم يفتهم حُكم الأقدمين: «زنادقة الدنيا أربعة: بشَّار بن بُرد، وابن الرَّاوندي، وأبو حيان التَّوحيدي، وأبو العلاء المعريِّ» (الحنبلي، شذرات الذهب).المعري: عمل للفنان السوري عاصم الباشا

أما بشار (قُتل 168هـ) فله مع المعتزلة مشكلة، كفره واصل بن عطاء (ت131هـ)، وحرض على قتله: «أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المُشنّف المكنَّى بأبي معاذ منْ يقتله» (الجاحظ، البيان والتبيين). كذلك ابن الراوندي (ت 298هـ) صنّف «فضيحة المعتزلة» تعقيباً على كتاب الجاحظ (ت 255هـ) «فضيلة المعتزلة»، ورد عليه شيخهم عبد الرَّحيم الخياط (ت 290هـ) بـ«كتاب الانتصار والرد على ابن الرواندي الملحد»، والتوحيدي (ت 414هـ) له مع الوزراء ما «لا يصلح العطار»، حتى صنف كتابه «مثالب الوزيرين»، ابن عباد (ت 385هـ)، وابن العميد (ت 360هـ)، وهما مِن وزراء السلطنة البويهية. نعم، نُقدر المعتزلة ونعتز بأفكارهم المتقدمة، لكنهم مارسوا التكفير مثلما مارسه أهل الحديث ضدهم.

أما المعري (ت 449هـ) فعده ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ) بالملحد البارد: «من العجائب أن المعري أظهر ما أظهر مِن الكفر البارد الذي لا يبلغ من مبلغ شبهات الملحدين» (ابن الجوزي، المنتظم). إلا أن ابن عقيل لم يسلم من التهمة بل رمي بأقسى منها، كُفّرَ كفراً حاراً، وحُكم عليه بالقتل مِن قِبل الحنابلة وهو من شيوخهم. قالوا: «خالف سلفه وأئمته وسادة أهل مذهبه.. أُهدر دمه» (ابن قُدامة، تحريم النظر في كُتب الكلام).

إنه نزاع بين الآراء، حتى صار التكفير والرمي بالزندقة أسهل من شربة ماء، وما زال الأمر كذلك في يومنا هذا، بل أشد وأعنف. إذن، كيف نرجو من فقهاء وخطباء يُذكرون فضلاً للمعري، مع أنهم نسجوا على كلامه كلاماً يشع إيماناً؟!

قال هذا البيت الشهير المعري (ت 449هـ)، لكنه شاع يتيماً مِن دون صاحبه، حتى أصبح واقعاً، والصيغة المحرفة الألفاظ أعلاه. جاء في ديوانه: «المرءُ كالنَّارِ تبدو عند مسقطِها/ صغيرةً تخبو حينَ تحتدمُ/ النَّاسُ للنَّاس مِن حضرٍ وباديةٍ/ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ/ وكلُّ عضوٍ لأمرٍ ما يُمارسه/ لا مشيَ للكفِ بل تمشي بك القَدمُ/ وعالمٌ ظلَ فيه القول مختلفاً/ ومُحدَثٌ هو مِن ربٍّ له القِدمُ/ فأدخر لنفسك خيراً كي تُسرْ به/ فإن فعلتَ، وإلا عادكَ النَّدمُ » (لزوم ما لا يلزم).

كان المعري في هذا البيت: «النَّاسُ بالنَّاس مِن حضرٍ وباديةٍ/بعضُ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ » حاذقاً، مثل حذقه في تصور قراءة العميان مبكراً: «كأن منجمَ الأقوامِ أعمى/لديه الصُّحف يقرأها بلمسِ » (المصدر نفسه). صنف ابن العديم الحلبي (ت 660هـ) كتاباً ردَّ فيه على ما لحق المعري مِن حيف، ولعله الكتاب النَّادر في موضوعه «الإنصاف والتَّحري في دفع الظُّلم والتَّجري عن أبي العلاء المعري». أما الآخرون فاستلطفوا حِكمته في البيت الذي عبر عن نظرية في الاجتماع، ظاهرة لا يعبر عنها وبهذا الاختصار غير ذكي حاذق، فأشاعوا كلامه في كتبهم وشطبوا اسمه.

تكلموا ما شئتم في المعري، لكن ليس من الحق والدِّين والبحث العلمي والأدبي أن تزينوا كتبكم وخطبكم ومواعظكم بكلامه وتتنكرون لاسمه. فالفقيه سفيان الثَّوري (ت 161هـ)، على الرغم مما بينه وبين أبي نواس (ت 198هـ) من فجوة، فهما سائران كلّ في طريق، نهر شاتمه: «أتقول في رجلٍ يقول: تخافه الناسُ وترجوه/ كأنه الجنَّةُ والنَّارُ» (ابن منظور، مختار الأغاني). فلماذا يُسلب حق المعري؟!

أقول: العِلم والفلسفة والفنون والآداب إنسانية، تؤخذ مِن الكافر والمؤمن، هذا إذا أصروا على كُفر المعري، وإلا كيف بنى الفقهاء أحكامهم الفقهية وفق منطق أرسطو (الصُّوري)، وانقسموا بين مؤيد ومعترض على اعتباره «آلة العِلم»، أو «مقدمة العلوم»؟!