اليوم التالي لفتح السفارة الأميركية بالقدس

إذا انخرط الفلسطينيون في نداءات الشجب والإدانة وصب اللعنات، سوف تحقق إسرائيل ما أرادت من وراء القرار: تحويل الأنظار إلى نقطة فرعية في قضية الإحتلال.

تنشغل وسائل الإعلام الإسرائيلية حاليا، بما سيجري يوم 14 مايو، موعد فتح السفارة الأميركية في القدس المحتلة بمناسبة الذكرى السبعين لإعلان دولتهم على أرض فلسطين. السيناريوهات التي يجري تداولها لهذا الحدث قاتمة، وتؤكد أن مرحلة ستبدأ عقب هذا اليوم.

مرحلة تأخذ الصراع إلى منحنى مختلف. تنسي العرب والفلسطينيين جوهر الإحتلال وتركز على مشروعية وعدم مشروعية نقل السفارة والدخول في سلسلة من التجاذبات السياسية. ما يمنح إسرائيل فرصة عملية لمزيد من حرف القضية عن مساراتها التاريخية.

القضية الفلسطينية التي أصيبت بكبوة خلال السنوات الماضية، كادت أن تدخل في موت بطيء، نتيجة الفشل في التعامل مع معطياتها السياسية، وظهور أزمات عربية ساخنة. لكن جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس لينهي مرحلة البرودة ويعيد القضية للصدارة. ربما يكون هذا التطور الميزة الوحيدة للقرار، لأنه أكد حضورها في الوجدان العربي العام.

التصعيد الظاهر في غزة باتجاه إسرائيل من خلال مسيرات العودة، أثبت أن لدى الفلسطينيين خيارات بديعة لمقاومة الإحتلال. قناصة إسرائيل الذين درجوا على استهداف الشباب، أصبحوا حريصين على تفادي قتلهم. التركيز ينصب على اصابتهم في الأرجل، لأن الصور التي تنقل للعالم رسخت في الأذهان أن هناك احتلالا غاشما يكتم على صدور الفلسطينيين. الكبار والشباب والأطفال والفتيات والعجائز.

الضجة السياسية التي أحدثها قرار ترامب في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وردود فعل دول قريبة من إسرائيل، جعلت هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر. التمسك بها من قبل واشنطن وتجاهل النداءات التي طالبت بالتروي، كشف أنها مطلوبة بحد ذاتها. ليس لأنها مرتبطة بما يسمى بـ "صفقة القرن" فقط، لكن لأنها تغير مجرى الصراع وترسم له خطوطا جديدة.

الحديث طوال السنوات التي تقدم فيها الحل السياسي على الحسم العسكري، ركز على كيفية التوصل إلى تسوية تضمن قيام دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967. مع ذلك لم تقبل إسرائيل بهذا الطرح. أرادت محوه من خلال تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية، وتكريس الانقسامات بين الفصائل المختلفة، وجاء نقل السفارة الأميركية أملا في أن ينهي فكرة الدولة.

هذا القرار، كان المفترض أن يوحد المواقف الوطنية، ويستثمر الزخم الإقليمي والدولي، وكالعادة دخل بورصة المزايدات. مع أن جميع القوى الفلسطينية رفضته، حتى من في أنفسهم مرض أو غرض اضطروا للتظاهر بالرفض. قاوموا الإغراءات المادية والسياسية التي قدمت لهم وركبوا موجة الممانعة، بالحق والباطل.

اليوم التالي لنقل السفارة، يمكن أن يغير مجرى الصراع التاريخي، سلبا أو إيجابا. إذا انخرط الفلسطينيون في نداءات الشجب والإدانة وصب اللعنات، سوف تحقق إسرائيل ما أرادت من وراء القرار، وهو تحويل الأنظار إلى نقطة فرعية في قضية الإحتلال، تدخلنا في جدل من وافقوا على النقل، ومن رفضوا، وأي دولة لا يزال موقفها محايدا؟

الاستغراق في التفاصيل الهامشية، أحد أهم الوسائل التي تستخدمها إسرائيل، وجعلت البعض يتجاهل الأرض والحدود واللاجئين والاستيطان، ويركز في المعاناة الإنسانية، والحصار الذي أصبحت إسرائيل تتعاطف معه، عندما كشر الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن أنيابه في مواجهة حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، وفرض حصارا فوق الحصار.

إسرائيل الآن، تبدو متعاطفة مع أهالي غزة التي أشبعتهم تقتيلا وتفجيرا. تسمح لدول كثيرة بتقديم مساعدات لهم، للتغطية على تصرفاتها الإجرامية. الكل يتحدث عن محنة غزة الاقتصادية، دون أن يتوقفوا عند السبب الرئيسي في المحنة.

مع ذلك يمكن أن يتحول اليوم التالي لنقل السفارة، إلى ميزة نسبية ويحقق جملة أهداف إيجابية، إذا توافقت القوى الفلسطينية على برنامج لمواجهة آلة الإحتلال، والتصدي للصفقة الأميركية، بدلا من حرب تصفية الحسابات الجارية بين حركة فتح ومن لف لفها، وحركة حماس ومن تحالفوا معها.

كم مرة اجتمع هؤلاء للتفكير في مقاومة الإحتلال بالطرق السلمية أو العسكرية؟ كم مرة التقوا في القاهرة أو غيرها لبحث الخلافات بغرض التوصل لقواسم مشتركة؟ كم مرة تجاهلوا مواقفهم الحركية وغلبوا التقديرات الوطنية؟ كم قيادة أعلنت زهدها في السلطة (أي سلطة) لأجل إحياء حلم الدولة الفلسطينية؟

المراقب للحوارات والمحادثات والمفاوضات، تحت أي لافتة، مصالحة، تفاهم، تقريب وجهات نظر، يخرج بنتيجة واحدة. المزيد من الخصام والتنافر والتباعد. ما مكن إسرائيل أن تضاعف من مستوى تجبرها. وسمح لواشنطن تتمسك بمتانة الغطاء الإستراتيجي الذي توفره لها.

اليوم ثمة لحظة تاريخية. تتعاطف فيها دول كثيرة مع القضية الفسلطينية. ظهرت تجلياتها في محكات مختلفة، آخرها اجبار إسرائيل على عدم الترشح للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن. هي دلالة سياسية كاشفة لحجم الرفض لما تقوم به من تصرفات وانتهاكات.

لذلك من الواجب أن يجعل الفلسطينيون من اليوم التالي لنقل السفارة الأميركية درسا موجعا لإسرائيل ومن يدافعون عنها. ينطلق من الاستماع لصوت العقل ونبذ الخلافات. توظيف التعاطف الدولي الواضح مع قضيتهم، الذي يمكن أن يفتر كما فترت مواقف صارمة من قبل، عندما يتغلب الخصام الحركي على الوئام الوطني.

إسرائيل حصدت مكاسب كبيرة جراء استمرار الخلافات الفلسطينية. لا أعلم بالضبط لماذا التباعد وهذا العداء؟ أحيانا أجد المسافة الشاسعة بين فتح وحماس، تفوق بين أي منهما وإسرائيل. بهذه الطريقة، هل يمكن تحرير شبر واحد من الأرض الفلسطينية؟

مسيرات العودة وصمودها منح القضية الفلسطينية قدرة كبيرة لمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية. أكدت أن المقاومة الشعبية سلاح لن يموت. القفز عليها سياسيا، من قبل حماس أو غيرها، قد يدخلها طريقا غامضا. المسألة تحتاج إلى توافق أكثر من أي وقت مضى. ما نراه العكس. كلما تعاظمت التحديات أمام الفلسطينيينن تباعدت بهم السبل.

الحاصل أن إسرائيل المشغولة باليوم التالي لـ 14 مايو، سوف تكتشف أنه لن يختلف كثيرا عن الأيام السابقة عليه. خلافات ومكايدات وتراشقات وامعان في تصفية الحسابات. وهي الروشتة التي مكنتها من الاستمرار حتى اليوم بكل هذا الصلف والغرور والجبروت. المفردات الفلسطينية التقليدية هي الترمومتر الذي تقيس به إسرائيل نجاحها في تحقيق أهدافها المرحلية.