ايران والخيار الصعب

يعرف النظام الإيراني، قبل غيره، انّ الخروج من دمشق سيعني الخروج من طهران.

على الرغم من كلّ الكلام الصادر عن وزير خارجية النظام السوري وليد المعلّم عن شرعية الوجود الايراني في سوريا، هناك ما هو اهمّ بكثير مما يقوله بشّار الأسد او وزير خارجيته. يحاول الأسد الابن ووزير خارجيته اقحام نفسهما في موضوع لا علاقة لهما به هو موضوع الوجود الأجنبي في سوريا. هذا الموضوع مختلف كلّيا عن تصوّر النظام للوضع السوري، وهو تصوّر مبني على أوهام تقيم في عقول مريضة ليس الّا.

هناك سؤال في غاية البساطة يتجاوز كلام بشّار والمعلّم: هل يمكن ان تقبل ايران بالخروج مع ميليشياتها المذهبية من الجنوب السوري ومن سوريا كلّها لاحقا؟ الجواب ان الضربات الإسرائيلية التي تلقتها أخيرا، في ظلّ تواطؤ روسي واضح، قد تكون اكثر من كافية لاقناعها بان لا خيار آخر امامها. السؤال يتضمّن "قد" كبيرة، نظرا الى ان ايران تعرف تماما ماذا يعني خروجها من دمشق ومن الجنوب السوري، ثمّ من سوريا، وانعكاسات ذلك عليها.

يبدو خيار خروج ايران وميليشياتها من الجنوب السوري خيارا صعبا بالفعل في ضوء الاتفاق الروسي – الإسرائيلي الذي وضع اللمسات ما قبل الأخيرة عليه في موسكو وزير الدفاع الإسرائيلي افيغدور ليبرمان ووزير الدفاع الروسي سرغي شويغو. نفت إسرائيل الوصول الى اتفاق نهائي اذ تريد ايران خارج سوريا كلّها وليس من الجنوب فقط. لكنّ الواضح انّ ما توصل اليه الجانبان يدخل في التفاصيل الدقيقة، اذ يتضمّن توفير ضمانات توفرها روسيا للاهالي، من المواطنين السوريين، الموجودين في مناطق معيّنة. هؤلاء، أي الاهالي، يخشون التهجير. يخشون، في احسن الأحوال، دخول قوات تابعة للنظام بيوتهم وبداية عملية نهب لها كما حصل في قرى غوطة دمشق وبلداتها.

سيظل السؤال الحقيقي المطروح ما التعويض الذي ستحصل عليه ايران في سوريا نتيجة اضطرارها، عاجلا ام آجلا، الى الخروج من سوري كلّها، هذا اذا كان هناك من هو مستعد لإيجاد مثل هذا التعويض ودفع ثمنه.

كانت ايران، ولا تزال، تعتقد انّ دمشق والجنوب السوري يشكلان الجائزة الكبرى التي تسمح لها بلعب دور اكبر على الصعيد الإقليمي من جهة وتتويج سلسلة الانتصارات التي حققتها منذ سلمتها الولايات المتحدة العراق على صحن من فضّة في العام 2003 من جهة اخرى. صار عليها الآن، بدل البحث عن تعويض، التفكير جدّيا في مخرج من سوريا كلّها. هل يمكن لإيران نسيان وجود سوريا في ظلّ حاجتها الدائمة الى جسر يربطها بـ"حزب الله" في لبنان وبالدويلة التي اقامها فيه؟

ستبحث ايران عن تعويض ما في حال اضطرت في يوم قريب لالتزام الاتفاق الروسي – الإسرائيلي الذي يظهر انّه لم يكتمل بعد. انّها تعرف قبل غيرها انّ هناك أطرافا أخرى على علاقة مباشرة بايّ اتفاق يمكن ان يحصل وان عليها ان تأخذ ذلك في الاعتبار. على رأس هذه الأطراف الولايات المتحدة والأردن المعني مباشرة بما يدور على طول حدوده مع سوريا. كان الاقتراب الايراني والميليشيوي المذهبي من هذه الحدود همّا دائما في عمّان التي لديها تجاربها مع "حزب الله" منذ ما يزيد على عشرين عاما.

الأكيد ان ايران ستقاوم الاتفاق الروسي – الإسرائيلي الجاري العمل عليه. ستحاول الالتفاف على الاتفاق، خصوصا ان الهدف الروسي، في نهاية المطاف، هو ابعادها عن دمشق حيث يسعى بشّار الأسد، بعد فوات الاوان، الى اللعب على أي تناقضات روسية – إيرانية. كان آخر دليل على ذلك كلام وليد المعلّم الذي لا يمت للحقيقة بصلة عن شرعية الوجود الايراني وعن الربط بين الانسحاب الايراني والانسحاب الاميركي من التنف. قبل ذلك، قال رئيس النظام في مقابلة تلفزيونية مع فضائية "روسيا اليوم" ان لا جنود إيرانيين في سوريا وان الضربات الإسرائيلية الأخيرة استهدفت قوات سورية. على من يضحك بشّار في وقت بات معروفا ان ايران نفسها اعترفت بسقوط قتلى لها في سوريا؟ لم يعد سرّا ان ايران موجودة اكثر من ايّ وقت وبقوّة في دمشق وانّها تلعب دورا أساسيا في عملية التطهير ذات الطابع المذهبي التي تشهدها عاصمة الامويين وكلّ المناطق المحيطة بها.

لجأت ايران الى ورقة النظام السوري كي تتفادى الرضوخ للاتفاق الروسي – الإسرائيلي الذي هو قيد الاعداد. قال المعلم في مؤتمر صحافي: "لا تصدّقوا أي تصريحات عن اتفاق في الجنوب الّا بعد انسحاب الولايات المتحدة من التنف".

لن تقبل ايران الخروج من سوريا بسهولة في وقت تعرف ان لا خيار آخر امامها غير الحرب. يعرف النظام فيها، قبل غيره، انّ الخروج من دمشق سيعني الخروج من طهران. اكثر من ذلك، استثمرت ايران مليارات الدولارات في مشروعها السوري الذي يستهدف، بين ما يستهدفه، تغيير طبيعة المجتمع في هذا البلد وإبقاء الجسر القائم مع دويلة "حزب الله" في لبنان.

من غير الطبيعي قبول ايران بالاتفاق الروسي – الإسرائيلي الذي لا يزال قيد الاعداد. لكنّ المأزق الذي وجدت ايران نفسها يعود قبل كلّ شيء الى ان البديل من الاتفاق هو مواجهة لا تستطيع فيها تحقيق أي انتصار من ايّ نوع.

كان مسموحا في الماضي لإيران تحقيق انتصارات في حروبها. لم تكن انتصاراتها في ايّ يوم على إسرائيل. كانت انتصاراتها في الواقع على لبنان. هذا ما حصل صيف العام 2006. كانت القضية الفلسطينية في كلّ وقت مجرّد سلعة تصلح لكل أنواع المساومات. جاء الآن من يقول لها ان كفى تعني كفى. ليست إسرائيل التي تقول كفى لإيران، بل الإدارة الاميركية الحالية التي تعرف، اقلّه نظريا، ما هي ايران وما خطورة مشروعها التوسّعي في الشرق الاوسط والخليج وما يتجاوزهما.

ما على المحكّ يتجاوز إسرائيل الى الترتيبات الأمنية في المنطقة كلّها في اطار اتفاق أميركي – روسي سيحدد مستقبل العلاقات بين واشنطن وموسكو وطبيعتها. من سوء حظ ايران ان الاتفاق الروسي – الإسرائيلي، الذي لم يكتمل بعد، يندرج في هذا السياق، كما يندرج في سياق ازمة كبرى تواجه النظام في طهران. في أساس هذه الازمة تدهور الاقتصاد في بلد قرر لعب دور اكبر من حجمه على الصعيد الإقليمي عن طريق التمدد في اتجاهات مختلفة وصولا الى اليمن. الأكيد ان كلام بشّار الأسد ووليد المعلّم لا يمكن ان يوفّر حبل نجاة لإيران. هل من عاقل يستطيع الاعتماد على نظام لا يمتلك ايّ شرعية من ايّ نوع مرفوض من أكثرية شعبه؟ ما كتب قد كتب. بات امام ايران في سوريا الاتفاق الروسي – الإسرائيلي، غير المكتمل بعد، والوجود الاميركي شرق الفرات. وبات امامها في لبنان القرار 1701 وبات امامها في الخليج القرار السعودي بالمواجهة وبات امامها في غزّة اضطرار "حماس" للانصياع لمصر.

الى اين ستذهب ايران؟ هل تذهب الى الانسحاب من الجنوب السوري، تمهيدا للانسحاب من سوريا كلّها، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات على النظام في طهران... او الى مواجهة على صعيد المنطقة كلّها ليس ما يشير الى انّها قادرة على خوضها!