توازن الكون بين جهود الطبيعة ومحاولات البشر

كتاب د. مصطفى الفقي "فلسفة الكون وتوازن الوجود" يتناول حدود التوازن البيولوجي والإيديولوجي حيث المعتقدات والديانات والفلسفات في صميم الموضوع.
العقل الإنساني أشد تعقيدًأ آلاف المرات من أكثر أجهزة الكمبيوتر تقدمًا ورقيّا
الأمراض والكوارث الطبيعية ناتجة وجودٍ مضطرب

القاهرة - من أحمد مروان
أكد د. مصطفى الفقي في كتابه "فلسفة الكون وتوازن الوجود" أن الكون يرتكز على فلسفة تستحق التأمل، لأن الوجود يقوم على توازن يثير الدهشة، بل إن الكوارث الكبرى في تاريخ البشرية والأوبئة التي اجتاحت الإنسانية هي تعبير ضمني عن تلك الفلسفة وذلك التوازن، فكتب التاريخ العسكري تكشف عن أن وباء الطاعون حصد أرواح عشرات الآلاف من الجنود، وحسم المعارك وقهر الغزاة، كما أن مرض السل استشرى بشكل وبائي في التجمعات العمالية المكدسة في عصر الثورة الصناعية في أوروبا حتى اجتاح العالم بشكل وبائي قبل اكتشاف البنسلين وغيره من المضادات الحيوية.
وهل ننسى مرض الكوليرا الذي اجتاح الريف المصري في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي؟ وهل غابت عنا الآثار الفتاكة للملاريا في أدغال أفريقيا وأحراش آسيا؟ إنها حكمة الخالق أن يبتلي البشرية بموجات من الكوارث والأوبئة ليقول للإنسان إنك "لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا"، فعندما تقدم البحث العلمي أطل داء لعين على إنسان العصر، وأعني به مرض السرطان الذي أظن أنه كان موجودًا منذ بدء الخليقة ولكن الذي حدث هو أن وسائل التشخيص وأساليب اكتشاف المرض هي التي تقدمت، ووضعته على خريطة الحياة ليؤكد عجز الإنسان، ويثبت أن إرادة الله فوق كل شيء.

عرض كتاب
"فكل ميسر لما خلق له"

بل إن عالم الحيوان قد دخل وسيطًا في الأمراض منذ القدم، بدءًا من برغوث على ظهر فأر يحمل جرثومة الطاعون! مرورًا ببعوضة الملاريا ودودة البلهارسيا وصولًا إلى جنون البقر وأنفلونزا الطيور، حتى أن المرض الأخير يبدو مثيرًا للدهشة ومبعثًا للقلق، لأنه ينتقل من الطير إلى الطير، ثم من الطير إلى الإنسان، ثم من الإنسان إلى الإنسان، دورة معقدة توحي بأن الله الذي أراد أن يعاقب إنسان الرذيلة منذ نهايات القرن الماضي هو الذي بعث بمرض نقص المناعة الإيدز، وجعل نقطة انطلاقه حيوانية هي الأخرى، حيث بدأ من القردة ليعيد للإنسان رشده، ويفرض عليه قدرًا من الحذر والعفة، كانت حياة الإنسان الماجنة بحاجة إليهما، وهكذا تتحكم قدرة الخالق الذي يجب أن نسلم بوجوده مهما تكن ديانتنا ومعتقداتنا، لأن لكل شيء سببًا – في مسيرة الحياة وتوازن المخلوقات من الناحيتين البيولوجية والإيديولوجية حتى تدرك البشرية كلها أنها في قارب واحد.
لا يكتفي الكاتب بالحديث عن الأمراض، وهو يتناول الوجود بأسره في محاولة لاكتشاف مقومات تلك الفلسفة وعناصر ذلك التوازن، بل ينعطف ليتوقف عند حجم الكوارث الكبرى التي تعبر عن الطبيعة الغاضبة بين حين وآخر، من زلازل مروعة وأعاصير قاتلة وفيضانات مدمرة وبراكين مخيفة، إنه بحق وجود مضطرب، يضيف إليه الإنسان مصادر أخرى للتوتر والقلق والعذاب؛ بالحروب الدامية والصراعات الطاحنة والجرائم المنظمة.
ويوضح أنه لا توجد في تاريخ المعمورة كائنات بلا جدوى – حتى ما اندثر منها – "فكل ميسر لما خلق له"، وقد نتساءل أحيانًا عن جدوى وجود الحشرات الضارة والزواحف السامة والوحوش المفترسة، ويغيب عن ذهننا أن وجودها هو ضرورة للتوازن البيئي واستمرار الحياة على الأرض، ويكفي أن نتذكر أن من لدغات النحل يخرج العسل غذاءً للمرضى والناقهين.
ويتوقف المؤلف أمام دورة الحياة متأملا بها، حيث الإنسان يأكل الحيوان والنبات، والحيوان يأكل النبات، وقد يأكل الإنسان أيضًا في دورة عجيبة توحي بأن الخلقة المنتظمة للوجود مرتبطة بالعناصر السابقة دون تفرقة، بل إن مثار الدهشة الحقيقية هو ذلك التشابه الكبير بين الإنسان والحيوان خصوصًا الثدييات، وهو ما يؤكد أن نظرية داروين وإن كانت تحتاج إلى مراجعة إلا أنها لا تخلو من متعة فلسفة وتفسير لمفهوم النشوء والارتقاء.

كتاب يتناول الوجود بأسره في محاولة لاكتشاف مقومات تلك الفلسفة وعناصر ذلك التوازن، وينعطف ليتوقف عند حجم الكوارث الكبرى التي تعبر عن الطبيعة الغاضبة بين حين وآخر

التوازن الايديولوجي
يرى المؤلف أيضا أن حدود التوازن في الخلق لا تقف عند التوازن البيولوجي، ولكنها تتجاوز ذلك إلى التوازن الإيديولوجي، فيما أكثر المعتقدات والديانات والفلسفات في ربوع الدنيا، يقول: "لقد عشت في الهند سنوات أربعًا، بدت لي فيها تلك الدولة العظيمة وكأنها متحف للزمان والمكان في آن واحد، ففيها توليفة كبيرة من كل شيء، فيها الغنى الفاحش والفقر المدقع، فيها الموحدون والوثنيون، وفيها لغات بغير عدد وكأنما يبدو ذلك تأكيدًا لما جاء في القرآن الكريم "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".
ويوضح وجهة نظره في أن النفس البشرية والعقل الإنساني هما أشد تعقيدًأ آلاف المرات من أكثر أجهزة الكمبيوتر تقدمًا ورقيًا، وهو مايزال يستمتع بتذكر جلوسه في مقهى لاندمان في العاصمة النمساوية، وعلى الطاولة نفسها التي كان يجلس عليها العالم النفسي المشهور سيغموند فرويد لكي يربط بين التيارات المادية في الفكر الإنساني لأوروبا الحديثة من الماركسية إلى الدارونية وصولًا إلى الفرويدية، في محاولة من أصحاب هذه النظريات لصياغة فلسفة جديدة للكون والخروج بنظرية متوازنة للوجود، ولا أظن أنهم نجحوا تمامًا في ذلك!
يمكن القول أن كتاب "فلسفة الكون وتوازن الوجود" هو رحلة طواف سريع حول الآثار الناجمة من محاولات تلقائية تسعى بها الطبيعة من جانب، والبشر من جانب آخر لإحداث توازن الوجود. (وكالة الصحافة العربية)