تونس مرشحة لنشأة طبقة سياسية مستقلة

مراقبون يرون أن فوز المستقلين في الانتخابات المحلية يرجح فرضية نشأة نواة سياسية جديدة أكثر قربا من مشاغل الأهالي وتحظى بثقة فقدتها الأحزاب الحاكمة.

تونس - يرى مراقبون أن فوز المستقلين في الانتخابات البلدية، التي جرت في السادس من مايو أيار بأغلبية مقاعد مجالس الحكم المحلي على حساب كل من النداء والنهضة، مؤشرا قويا على بداية نشأة نواة لطبقة سياسية مستقلة.

ووفق الهيئة العليا المستقلة للانتخابات استأثر المستقلون بـ2373 مقعدا من أصل 350 مقعدا من المجالسالبلدية مقابل 2139 مقعدا لحركة النهضة 1600مقعدا للنداء و261 للجبهة الشعبية المعارضة يلها التيار الديمقراطي بـ 205 مقعدا.

وكان المستقلون ترشحوا في الاستحقاق الانتخابي الأول من نوعه بـ860 قائمة من أصل 2074 قائمة موزعة على كامل الدوائر البلدية وهي ظاهرة تحدث لأول مرة في تاريخ تونس السياسي. وتمثل رسالة قوية مفادها أن "هالة الأحزاب" ما هي في الواقع إلا ظاهرة صوتية لا تعكس حقيقة أوزانها الانتخابية.

ويبدو، كما يذهب إلى ذلك محللون سياسيون، أن المستقلين استفادوا من الأزمة السياسية والهيكلية وما رافقها من احتقان اجتماعي وغضب أهالي الجهات الداخلية المحرومة والأحياء الشعبية الأشد حرمانا على سياسات التهميش الاجتماعي والسياسي.

ويرى مراقبون أن فوز المستقلين يؤشر على بداية تشكل نواة طبقة سياسية غير متحزبة تتغذى من الآلاف من الكفاءات المتخصصة في عديد المجالات في الجهات الداخلية.

الانتخابات البلدية في تونس
نتائج مربكة للأحزاب

ويضيف المراقبون أن النواة الناشئة هي الأكثر قربا من مشاغل الأهالي الحقيقية وتحظى بثقة فقدتها الأحزاب السياسية وفي مقدمتها النداء والنهضة اللذين ينظر إليهما الأهالي على أنهما أمعنا كثيرا في تعميق الحيف السياسي والاجتماعي بالنسبة لأبنائهم من الكفاءات.

ويقول خليل الرقيق المحلل السياسي "أظهرت نتائج الانتخابات أن هناك طبقة سياسية مستقلة ناشئة بقدر ما تطالب بحقها في المشاركة في الشأن المحلي والشأن العام بقدر ما تتمسك باستقلاليتها تجاه الأحزاب التي ترى فيها أحزاب افاشلة لا تعبر عن مشاغلها".

من هم المستقلون

تظهر القراءة في فوز القائمات المستقلة أن المستقلين يتكونون أساسا من جيل جديد من الكفاءات المتخصصة في مختلف المجالات من أساتذة جامعات وأطباء وصيادلة ومهندسين ومحامين وهو جيل شديد الارتباط بمشاغل أهالي جهاته المحرومة وعلى دراية دقيقة بأهم معضلاتها ويحظى بثقة عالية من قبل الأهالي.

ويرى الرقيق أن المستقلين ينقسمون إلى فئتين اثنتين، الأولى فئة مستقلة تماما عن الأحزاب ولا تربط بها بأي شكل من الارتباط الحزبي ولو من باب التعاطف على أن ذلك لا ينفي اهتمامه بالنشاط السياسي.

وتتكون الفئة الثانية من قائمات مستقلة متعاطفة مع بعض الأحزاب وخاصة نداء تونس وحركة النهضة تقاسمهما جزء من المقاربات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ولكن تتعامل معهما بحذر متمسكة بثقافة سياسية مدنية.

ويتبنى المستقلون ثقافة سياسية لبرالية حتى وإن تعلق الأمر بتعاطفهم مع الإسلاميين وهم يرون أن خروج البلاد من أزمتها الهيكلية لا يمكن أن تقوده الأحزاب لأنها تفتقد للبرامج العملية وإنما تقوده كفاءات من التكنقراط الأكثر دراية بمختلف الملفات والأكثر قربا من تعقيدات الأوضاع المحلية الهشة والمتردية.

راشد الغنوشي
بداية نهاية اكاذيب الأحزاب الكبرى

ووفق بيانات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تتكون غالبية فئة المستقلين من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و36 عاما إذ يمثلون 53.87 بالمئة من الجسم الانتخابي وهو ما يستبطن أوزانا انتخابية هامة ويعكس تمثيل الأهالي في مؤسسات الحكم المحلي تمثيلا يحمل مشاغل جديدة للتونسيين كثيرا ما تجهلها السياسيون أوهم عاجزن على فهما والتفاعل معها.

العزوف عن النشاط الحزبي

وتعكس ظاهرة المستقلين في تونس على مفارقة صعبة، فبقدر تمسكهم بالنشاط السياسي والمشاركة في صناعة القرار السياسي والإداري بقدر تمسكهم بعد الانتماء لأي حزب من الأحزاب.

وخلال الفترة الماضية أظهرت عملية سبر للآراء أجرتها مؤسسة "سيغماكونساي" أن نسبة مشاركة الشباب في النشاط الحزبي لا تتجاوز 5 بالمئة وهو ما يعني أن الأحزاب فشلت في استقطاب الآلاف من الشباب.

وتتغذى ظاهرة المستقلين من تدني الثقة في الأحزاب السياسية إذ أظهرت عملية سبر الآراء أن ثقة التونسيين في الأحزاب لا تتجاوز 29 بالمئة أي ان ثلث التونسيين لا يثقون في العملية السياسية، فيما تصل الثقة في مؤسسات الدولة إلى نحو 97 بالمئة.

الحق في المواطنة

ويرى مراقبون أن فوز العشرات من القائمات المستقلة في الدوار البلدية المحرومة نوعا من الاحتجاج على سياسات الحكومة الفاشلة في توفير مقومات العيش الكريم كما يعد تصويتا عقابيا ضد الأحزاب السياسية التي عادة ما تركز نشاطها في تونس العاصمة أو في المدن الكبرى وهو نشاط يعمق الشعور بالحيف الاجتماعي والسياسي لدى أهالي الجهات الداخلية المحرومة.

الباجي قائد السبسي
بداية السقوط

ويمكن أن نستحضر هنا نتائج الانتخابات في مدينة سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة نهاية العام 2010 منها وقادت إلى سقوط نظام بن علي، إذ ترشحت في دائرة السعيدة وحدها 5 قائمات مستقلة وحصدت 8 مقاعد.

ويرى مراد علالة الناشط الحقوقي أنه "حين نستحضر أن أهالي الجهات الداخلية ما انفكوا يقودون احتجاجات ضد السلطة المركزية مطالبين بدولة المواطنة التي تقف على نفس المسافة من جميع المحافظات نتحسس أن ظاهرة المستقلين تعبر عن ظاهرة سياسية جديدة يقودها الأهالي ويطالبون بتركيز مؤسسات حكم محلي ممثلة لهم لا ممثلة للأحزاب السياسية".

ويضيف علالة أن أهالي تلك الجهات"يرون أن أبناءهم من الجيل الجديد من حقهم صناعة القرارات المحلية المتعلقة بالتنمية وبالتشغيل وبتحسين ظروف الحياة، كما من حقهم المشاركة في صناعة القرار السياسي والإداري المركزي".

تدني الثقة في الطبقة السياسية الحالية

يستبطن ترشح 860 قائمة مستقلة وفوزها بـ 2373 مقعدا حقيقة في منتهى الخطورة وتتمثل في أن غالبية الناخبين التونسيين لا يثقون في الطبقة السياسية برمتها سواء منها الحاكمة أو المعارضة، وتلك الغالبية لاترى في القوى السياسية سوى أحزاب تقود البلاد من أزمة إلى أزمة أشد نتيجة التجاذبات السياسي والحرب على مواقع القرار السياسي والتنموي سواء تعلق بالشأن العام ككل أو تعلق بالجهات الداخلية المحرومة.

ويعد تدني ثقة الناخبين التونسيين في الطبقة السياسية، كما يذهب إلى ذلك محللون، نوعا من الظاهرة الإيجابية لأنها تعكس وعيا سياسيا بأن الحكومات التي تعاقبت على حكم تونس خلال السنوات الثمانية الماضية فشلت سياسيا.

ويشدد خليل الرقيق على أن نتائج الانتخابات أظهرت نوعا من التماهي بين فوز المستقلين والخارطة الجغراسياسية المهمشة ما يعني أن عملية الاقتراع لم تخلو من التصويت العقابي للطبقة السياسية في ظل الأزمة السياسية والهيكلية.

ويتوقع علالة أن "نواة نشأة طبقة سياسية مستقلة من جيل الكفاءات الجديد سيلقي بتداعياته على الشأن العام وعلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة".

ويرى مراد علالة أن لهذه الطبقة خصائص لا تتوفر لدى الطبقة السياسية الحالية منها تفاعلها المباشر مع ملفات الجهات وثقافة سياسية تحتج على شتى أشكال الحيف إضافة إلى أنها تحمّل السلطة المركزية مسؤولية الأزمة السياسية والهيكلية بالبلاد".