حان وقت التمدد الإقليمي لمصر

الحذر الذي تعاملت به مصر مع كثير من القضايا الإقليمية خلال السنوات الماضية، كان مفهوما في سياق إعادة ترتيب البيت من الداخل، وكثافة القوى المتصارعة للسيطرة على المنطقة. الآن أصبحت مصر أكثر أمنا واستقرارا، وبدأت الجهات الطامحة للهيمنة تتلقى ضربات تجبرها على التراجع والانكفاء.

التاريخ، البعيد والقريب، يؤكد أن الحفاظ على استقرار مصر يبدأ من خارج حدودها، وكتبت وغيري عن هذه المسألة وليس هناك داع لتكرار التجارب التي أثبتت ذلك، وحان الوقت للتمدد بهدف تأمين ما تحقق من انجازات في الداخل، وصد أي جموح قادم من الخارج.

التوجهات والتصورات والأفكار التي يتبناها النظام المصري الحالي أتت بثمار جيدة خلال الفترة الماضية، وكانت صائبة في الاقتراب الحذر من بعض الملفات الإقليمية ذات التأثير غير المباشر على الأمن القومي، وأولت اهتماما كبيرا بكل ما له علاقة مباشرة بالأمن المصري.

الصيغة التي جرى تبنيها كانت جيدة، حتى لو بدت للبعض غير ناجعة، جنبت البلاد التورط في أزمات مفتوحة، تجد الدول التي تورطت فيها معضلة في الاستمرار وأزمة كبيرة في الخروج منها، وكل المقاربات المصرية، في سوريا واليمن ولبنان والعراق، أو في الموقف من تدخلات إيران وتصرفات تركيا وقطر في المنطقة، اتسمت بقدر عال من التريث، بدأ المعارضون قبل المؤيدين يدركوا مبرراته وأهدافه مؤخرا.

الفترة التي فرضت الحذر الزائد أوشكت على الانتهاء، ومن يمعن النظر في المشهد الإقليمي، يتأكد أن ثمة فراغا ظاهرا، على الرغم من كل الضجيج الذي أحدثته إيران وتركيا وقطر والإخوان وداعش وغيرهم طوال السنوات الماضية، فراغ بحاجة لقوة مثل مصر تستطيع أن تملأه، والفرصة مهيأة أمام فرض نموذجها المعتدل.

المنطقة على وشك لململة الكثير من جراحها العسكرية والسياسية، وهناك اتجاه لتهيئة الأجواء أمام التسوية السياسية في سوريا واليمن وفلسطين، ومحاولات لإعادة كل من العراق ولبنان إلى الدائرة العربية، ورغبة كبيرة في وضع حد لنفوذ إيران في المنطقة.

ناهيك عن الأزمات الداخلية التي تعاني منها تركيا بسبب تدخلاتها في سوريا والعراق وصعوبة هضم دورها في منطقة الشرق الوسط، وهو ما يضطر حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة لمراجعة حساباته قبل حلول موعد الانتخابات البرلمانية العام المقبل.

كما أن قطر فقدت بريقها وانتهى دورها تقريبا، وأصبحت مهمومة بمأزقها المعقد مع غالبية دول الخليج وقوى دولية مؤثرة، وأدى اقترابها الكبير من إيران وتركيا إلى وضعها في دائرة المتمردين، بما ضاعف من مشكلتها الرئيسية المتعلقة بدعم حركات إسلامية متطرفة وجماعات ترتكب أعمالا إرهابية.

الصورة على هذا المنوال تنطق بضرورة أن تتحرك مصر عمليا وتملأ فراغا اعتقدت بعض القوى الإقليمية أن الصخب والنباح والمناكفات أدوات قادرة على سده من دون أن تتكبد عناء القراءة الموضوعية الواجبة في التعامل مع أزمات أهم سماتها السيولة الشديدة، ما جعلها مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها احتمال خروجهم من المشهد بلا مكاسب، وربما البحث عن وسيلة تمكن هؤلاء من الخروج بلا خسائر كبيرة.

العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية التي نسجتها مصر مع قوى مهمة في الغرب والشرق، أحد المداخل الأساسية التي تؤهلها للتمدد الإقليمي، ففي ظل النقمة الراهنة على إيران والقلق من حسابات تركيا وانتهاء دور قطر، مصر هي الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تكون لاعبا فاعلا بشروطها لا بالقواعد التي يضعها الآخرون.

انظر إلى ما آلت إليه العلاقات بين مصر وكل من إثيوبيا والسودان، فبعد أن تصور البعض أنها دخلت نفقا مظلما، بدأت الدفة تعتدل، ولم تتكبد مصر عناء الدخول في مواجهة مفتعلة حاولت جهات كثيرة جرها إليها، ما أزاح غمة سياسية وفتح بابا لزيادة وتيرة النفوذ على المستوى الأفريقي.

الحرص الزائد من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي على استقلال القرار المصري وعدم وضعه رهينة لأي دولة مهما تعاظم وزنها، من النقاط المفصلية في التحركات المصرية المقبلة، فالبناء السياسي والعسكري والاقتصادي تم، ولا يزال، وفقا لمنظومة محكمة تبعده عن الابتزاز مستقبلا، وجرى تلاشي أخطاء رؤساء سابقين راهنوا على هذه الدولة أو تلك.

ميزة أخرى مهمة بدأت تظهر تجلياتها مع الزيارة التاريخية التي قام بها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي لمصر قبل أيام، تكمن في توثيق أواصر العلاقة بين بلدين كبيرين، أغلقت جانبا كبيرا من الحساسيات السابقة وما أفضت إليه من خلافات، بعضها معلن وغالبيتها كان مستترا.

الزيارة يمكن القول أنها فتحت أفقا واسعا للتنسيق والتعاون تستفيد منه الدولتان وتصب نتيجته النهائية في تحجيم نفوذ القوى المناهضة والراغبة في دس أنفها في المنطقة والسيطرة على مقدرات شعوبها وتخريب أمنها واستقرارها، لذلك فتوثيق عرى التحالف الإستراتيجي بين مصر والسعودية يساهم في حماية المصالح العربية.

كل دولة تملك مقومات في مجال معين، تساعد في قطع الطريق على من استفادوا من غياب التنسيق العربي، وتصوروا أنهم تمكنوا من وضع أقدامهم في كثير من الدول العربية، والفرصة مهيأة أمام القاهرة والرياض ليكون التعاون مجديا في أزمات مثل سوريا واليمن والعراق ومواجهة إيران وتركيا.

الموقف القوي للبلدين، ومعهما الإمارات والبحرين، في مواجهة قطر، يصلح ليكون نموذجا لمزيد من التنسيق في أزمات أخرى، فقد رفضت الدول الأربع كل محاولات التفتيت وتمسكت برؤية واحدة في التعامل مع الدوحة ولم تتغير منذ اندلاع الأزمة معها في يونيو الماضي.

لدى مصر امكانيات كبيرة لتمد بصرها بقوة نحو مزيد من النشاط الإقليمي وعدم اقتصاره على الدوائر القريبة، لأن الأزمات الحالية حلقاتها معقدة ومتشابكة، قد تبدو روافدها ظاهرة في مكان، ومقدماتها في مكان آخر، وذيولها في ثالث، ومن يحركونها يقبعون في مكان رابع وهكذا.

الكلام عن أن الوقت أصبح مناسبا لتوسيع مناطق النفوذ ليس حديثا عاطفيا يدغدغ المشاعر أو يدفع نحو مغامرة مجهولة، هو حديث تدعمه معطيات إقليمية ودولية كثيرة، ويتناسب مع الطموحات الرامية إلى حماية الدولة المصرية، وتحاشي تكرار تدخلات قامت بها جهات كادت أن تكلفنا خسائر مضنية.