حيد نفسك يحيدك العالم

يكفي أن يؤمن اللبنانيون بوطنهم لكي يصبح الاستقلال ناجزا والسيادة قائمة.

هناك أفكار خاطئة لكنها ممكنة، وهناك أفكار صائبة لكنها مستحيلة. أفكار هذا المقال قد تكون من النوع الأخير، ومع ذلك لا بد من طرحها علها توقظ الضمير الوطني اللبناني:

منطق الأمور السياسية يفرض أن تؤلف القوى السياسية كتلا نيابية من وحي نتائج الانتخابات النيابية. لكن واقع الأمور المصيرية يوجب أن تلتقي كل المكونات السياسية في إطار وطني ما، تحسبا للتحولات الشرق أوسطية، لاسيما إذا تأخر تأليف حكومة تقليدية.

منذ سنة 1958 والقادة اللبنانيون يؤلفون حكومات إنقاذ وطني بعد انتهاء الأحداث والحروب، أي بعد أن يكونوا قد أغرقوا البلد وخربوه وقسموه ودمروه. حبذا لو يفعلون العكس اليوم، فيؤلفون حكومة طوارئ وطنية، قبل وقوع الأزمات والحروب فنتحاشاها.

في هذا السياق، دور رئيس الجمهورية أساسي في قلب المسار التقليدي لمرحلة ما بعد الانتخابات وخلق حالة "طوارئ وطنية"، خصوصا أن لديه كل المعطيات المتعلقة بتطور الأحداث في الأشهر المقبلة. وهو يعرف أن الدول الكبرى، رغم ملاحظاتها، تعول عليه لمنع انزلاق لبنان في مغامرات لا طاقة له عليها.

إن وحدتنا الوطنية، إن تثبتت، هي "قبتنا الحديدية" وهي الـ"باتريوت" وهي الـ"إس إس 400"، وهي القادرة على اعتراض أي خطر يوجه ضدنا وإسقاطه. وفيما تدفع الدول مليارات لاقتناء هذه الأنظمة الدفاعية، تكلفة "قبتنا الحديدية" صفر، إذ تساوي قرارا مستقلا يترجم ولاء القادة للبنان وحرصهم على حمايته. يكفي أن يؤمن اللبنانيون بوطنهم لكي يصبح الاستقلال ناجزا والسيادة قائمة.

لكن، من أين لنا هذه "الحماية الاستباقية"، وغالبية الطوائف جيوش احتياط لجيوش غريبة، وغالبية القوى السياسية تبرر وجودها بافتعال الأزمات؟ نحن شعب يمس باستقلال وطنه وسيادته قبل أن يمس بهما الغريب. وأصلا، منذ إنشاء لبنان الكبير، ما من محتل اقتحمنا بالقوة. أتونا أصدقاء وإخوانا وحماة ومنقذين. جميعهم دخلوا لبنان بالترحاب من باب انقساماتنا، وجهنا إليهم بطاقات دعوة ملحة، فقضت اللياقة أن يلبوها، لكن، جميعهم خرجوا بالقوة.

ما نتضرع لنيله في لبنان وهو شبه مستحيل هو من البديهيات في الدول الأخرى، وكأن شؤوننا السياسية مثل شؤوننا الحياتية، البديهيات غير متوافرة: لا ماء عندنا ولا كهرباء ولا نظافة ولا مواصلات، ولا ولاء عندنا ولا وطنية ولا مسؤولية أيضا. كلها موجودة ناقصة ومزغولة ومشركة.

أقول ذلك لأن الأجواء التي سبقت الانتخابات النيابية وأعقبتها تؤشر إلى تشكيل تحالفات عدائية تتجاهل الأخطار الداهمة وتبعد عن المفهوم الديمقراطي للموالاة والمعارضة رغم التسويات والمصالحات والتفاهمات وإعلان النيات السابقة. والغريب المؤلم في هذا الزمن الصعب، أن هذه العدائية ناتجة عن سوء العلاقات الشخصية لا عن اختلاف المبادئ. موجة أحقاد متبادلة تعيث في البلاد، خصوصا بين أطراف ينتمون إلى ذات "الخط الاستراتيجي" وأي خط؟! وإلى نفس المرجعيات الخارجية. كلهم يتحضرون لاستحقاق رئاسة الجمهورية سنة 2022، ولا يعلمون أن أحداثا وتغييرات جذرية ستسبق حتما هذا الاستحقاق "فيصبح الأولون آخرين والآخرون أولين" (متى 9/30).

أما الليونة التي ظهرت الأسبوع الماضي بين بعض القيادات، فلا تتعدى ضمان رئاستي المجلس النيابي والحكومة من جهة، وتأمين آخر الصفقات العالقة في مجلس الوزراء من جهة أخرى. لو كان يوجد شعور بالمسؤولية، لكانت الحكومة أنهت حياتها بإنجاز وطني كإقرار خطة تنفيذية لا إعلامية لإعادة النازحين السوريين عوض تمرير صفقة تجديد بواخر الكهرباء واقتسام مشاريع سياحية خاصة على الأراضي البحرية العامة.

وإذا حصل أن حلت النعمة على قوى الداخل وقررت تخطي المرحلة السابقة، فالمواقف الخليجية والإيرانية والأميركية الأخيرة وضعت خطوطا حمراء لأطراف لبنانيين وأعاقت حركة الانفتاح ونية التحالف. وإذا ما تمردت هذه الأطراف على الخارج ولم تكترث للخطوط الحمراء، فهذا الخارج قادر على تعكير الأمن جديا: أمن الأشخاص وأمن البلد وأمن الاقتصاد. هذه عاقبة المرتهنين.

لقد انتهت، على ما يبدو، فترة السماح التي أعطيت للتسوية الرئاسية. لبنان أصبح في قلب التطورات مع أن دولا صديقة، كفرنسا، تمنت على واشنطن وتل أبيب وإيران والرياض تحييده عن الأحداث. لكن الصراع الإسرائيلي/الإيراني دخل مرحلة حاسمة جعلت الدول كافة تجيب عن التمني بأن تحييد لبنان هو قرار لبناني قبل أن يكون قرارا إقليميا ودوليا، بمعنى أنه يجب إقناع اللبنانيين، لاسيما حزب الله، بتحييد أنفسهم عن الصراعات قبل إقناع الدول المتصارعة بتحييده. المجتمع الدولي التزم أمن لبنان لكن بعض القوى اللبنانية لم تلتزم به. وأساسا، إن تطمينات الدول الكبرى لجماعات الشرق الأوسط ذهبت أدراج الرياح في الصراع الكبير، فدفع ثمنها الفلسطينيون والأكراد والكلدان والآشوريون والسنجار والإزيديون والقوى الديمقراطية و... ومسيحيو لبنان سابقا.

تحدي المسؤولين اليوم أن يعيدوا الاعتبار إلى لبنان في الوسطين العربي والدولي. فبعيدا عن الكلام اللطيف للسفراء المعتمدين في لبنان، دولهم تعتبر أن لبنان دولة فاشلة لأنه وطن فاشل. كبار هذه الدول يقولون: أنتم في لبنان مواطنون فاشلون مع أنكم أشخاص مبدعون. دعوا المبدعين يحكمون لبنان لكي ندعمكم، سئمنا الرهان على الفاشلين. فشلوا وأفشلونا. رهاننا على الجيش اللبناني بلغ الحد الأقصى فيما تستخدمه الدولة بالحد الأدنى.

لذلك، المبادرة بيد رئيس الجمهورية، فبقدر ما يصد الطاقم السياسي يدعمه العالم، وبقدر ما يتساهل معه يهملنا العالم. اللبنانيون بحاجة إلى وطن يسمح بنشوء دولة. الصيغة الحالية أفرزت دويلات تنتمي إلى دول أخرى. نريد صيغة تفرز دولة واحدة تنتمي إلى وطن واحد. مؤسسو دولة لبنان أرادوا أن يأتوا إلى الدولة بالشعب اللبناني، المتعدد الأهواء والهويات، فأتى هو بها إليه ووزعها على مكوناته الطائفية فجوف الكيان وبعثر الوطن.

من هنا، لم يعد مهما اليوم من هي الأكثرية والأقلية في البرلمان الجديد، ما بات مهما هو الاجماع الوطني لإنقاذ لبنان.