'دولة الخلافة' باقية بأبعاد خطيرة بعد الهزيمة

فاطمة بدري
الحروب ضد الجهاديين ستنتهي بخسارة معاقلهم ولكن استمرار الطائفية في العراق يمكن أن يعيد تشكيله، والمقاتلون الأجانب قد يتحولون الى أوروبا عبر تركيا.
جهادي من الدولة الإسلامية
الصحاري الحاضنة القادمة للجهاديين

يتابع العالم سير معركة الموصل التي انطلقت في أكتوبر تشرين الأول وقد بلغت مراحل متقدمة على مستوى المكاسب المحققة على حساب تنظيم الدولة الإسلامية، على أمل أن يسدل الستار قريبا على أبرز قلاعه في العراق، وعين أخرى على المعركة الوشيكة في الرقة السورية حث الحصن الثاني للتنظيم الإرهابي. ومع بدء ظهور انحصار مناطق نفوذ التنظيم وتردد إمكانية هزيمته قريبا، بدأت الأسئلة تطرح حول مآلات "دولة الخلافة" بعد خسارة مناطقها.

وحررت القوات العراقية شرق الموصل بعد حملة عسكرية دامت حوالي ثلاثة أشهر، وتخوض معارك شرسة في الجانب الغربي من المدينة منذ الـ19 من شباط فبراير مكنتها من السيطرة على 40 بالمئة من المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم. وترجح تقديرات بأن تكون المعركة صعبة ومعقدة لعدة اعتبارات أهمها أن الجهاديين يحاربون بكل السبل المتاحة لديهم بما في ذلك التضحية بالمدنيين من اجل الحفاظ على معاقلهم، وللطبيعة الجغرافية للمنطقة، التي تتميز بضيق شوارعها واكتظاظها بالسكان. ولكن مع ذلك بشائر الانتصار تلوح في الأفق القريب.

وفي الرقة حيث المعقل الرئيسي الثاني للتنظيم تخوض قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن معارك هي الأخرى من أجل اختراق حصون "دولة الخلافة"، تمهيدا لمعركة يجري التحضير لها على مستوى دولي، وبقيادة أميركية، أعلنت فرنسا أنها سنطلق في غضون أيام.

ويرجح الخبراء أن تلحق الهزيمة بالتنظيم في كلا البلدين، بمعنى خسارة مناطق النفوذ وغياب المساحة الجغرافية الكاملة التي تحتضنه، ولكنهم يستبعدون أن تنتفي أفكاره أو تنتهي خطورته عند هذا الحد.

والأكيد أن الهزيمة التي ستلحق بالتنظيم في وقت لاحق بالموصل والرقة على أهميتها، إلا أنها ستضعهما على خط النار لفترات طويلة، بل وقد تحمل سيناريوهات كارثية تحركها المشاكل الطائفية المتأججة تارة وتعدد أطراف الصراع تارة أخرى. هذا دون التغاضي عن المقاتلين الأجانب الذين سيكونون بمثابة سفراء للفكر "الداعشي" في بلدانهم أو في البلدان التي تفتقر للاستقرار الأمني وتشكل بوابة مفتوحة لمرورهم.

العراق: مخاوف من الطائفية وإعادة التشكيل

ويجمع الكثير من المراقبين على أن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق يعدو أساسا للسياسة التي اعتمدها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في التعاطي مع المكون السني في البلاد، بإصراره على تهميشهم وإقصائهم في المشاركة الفعلية والعادلةٍ في إدارة الدولة وتقاسم السلطات والموارد. إذ نجح التنظيم في استثمار مشاعر السخط والغضب السني من تعاطي حكومة المالكي مع تلك المطالب لصالحه، وانعكس ذلك على زيادة الإقبال على التنظيم.

ورغم اختلاف سياسة العبادي عن سلفه في إدارة الكثير من الملفات، إلا أن إصرار حكومته والمكون الشيعي الذي ينتمي إليه على عدم الاعتراف بأن ظهور التنظيم الإرهابي ولد من رحم الطائفية قد يمهد لجولة أخرى لصالح "دولة الخلافة".

كما أن ظهور الحشد الشعبي كمكون عسكري مسقط في البلاد يمثل الطيف الشيعي، والقوة الأكثر سيطرة ونفوذا في المدن المستعادة، والأكثر ضلوعا بارتكاب "جرائم حرب وخروقات للقانون الدولي الإنساني ضد مجتمعات سنية في مناطق خضعت لسيطرة الدولة الإسلامية تحت صمت الحكومة المركزية رغم تلقيها الكثير من التقارير والشكاوى في الغرض، قد يعزز النزعات الطائفية الموجودة أساسا.

ويخشى الكثير من المتابعين أن تؤدي هذه السياسة المتبعة من الحكومة المركزية في العراق إلى تغذية الشعور بالاضطهاد والظلم والحرمان السياسي من قبل العرب السنة، وأن تحملهم إلى انتهاج الاحتجاج للحصول على مطالبهم المؤجلة أو ربما المرفوضة منذ سقوط الرئيس الأسبق صدام حسين في 2003، في مرحلة أولى، والارتماء بين يد أي حاضنة جديدة لهم كمرحلة ثانية إذا ما تواصل تعنت الحكومة في التعاطي مع مطالبهم المطرحة حتى اليوم. وهو ما قد تستغله خلايا التنظيم التي من المرجح أن تبحث عن ملاذات جديدة داخل المجتمع أو في الصحاري لتعاود التشكيل من جديد.

ويمكن للتنظيم أيضا الاستفادة من حالة الاحتقان المطروحة منذ فترة في صفوف بعض العرب السنة الذين تم إخراجهم من ديارهم بتعلة محاربة الدولة الإسلامية ثم تم رفض عودتهم رغم مرور أكثر من سنتين على تحرير بعض مناطقهم، في ظل ما يروج من أنباء عن استيلاء الحشد الشعبي وعائلاتهم على مناطقهم في سياق سياسة تغيير ديمغرافي تباركها الحكومة المركزية بطريقة غير مباشرة.

وفي حال فشل أو تغاضي حكومة العبادي عن مشاكل المكون السني وعدم التفكير في تكريس مصالحة وطنية حقيقية والتخلص من سيطرة وتأثير المليشيات الطائفية على مقاليد الحكم في البلاد، فإن التنظيم الذي من المرجح أن يلجأ إلى الصحاري والجبال سيعاود النزول تدريجيا، وسيلقى الترحيب السابق مستفيدا من ذات المعطيات والعوامل.

وفي خضم كل ذلك يقول الكثير من الخبراء والمتابعين أن العراق بمختلف مدنها ستكون هدفا للسيارات المفخخة والضربات الخاطفة لأهداف هامة داخل المدن أو الهجوم على ثكنات عسكرية أو استهداف شخصيات بعينها تتسم بمعاداتها له في خطوات تهدف لإرباك خصومه وفرض حالة من عدم الاستقرار الأمني.

ولهذا ستكون حكومة العبادي أمام تحدي كير هو إما استيعاب الدرس والإقرار بأن الطائفية هي الحاضنة التي أنتجت ما يسمى بـ"دولة الخلافة" والعمل على بناء الدولة القادرة على إشعار كل العراقيين بالانتماء وتحقيق العيش المشترك بين الشيعة والسنة، أو الاستعداد لولادة "داعش" جديد ربما بتسميات مختلفة ولكن بذات الوجه.

مخاوف من المقاتلين الأجانب

ويعد الوضع في سوريا أكثر تعقيدا في ظل حالة الحرب المتواصلة في البلاد منذ قرابة الست سنوات وتعدد الأطراف الفاعلة في البلاد، وتعدد المتصارعين داخلها، ولكن الأكيد أن القضاء على التنظيم الإرهابي في الرقة بات اليوم أولوية في ظل مخاوف الدول الكبرى من فرار جهاديي الموصل إلى الرقة، وهروبهم فيما بعد من البوابة التركية إلى أراضيهم.

ورغم أن قوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بدعم أميركي تتصدر واجهة القوات التي تحارب التنظيم الإرهابي بالرقة، إلا أن هناك حالة استنفار على نطاق واسع تجري من أجل هذه المهمة.

فتركيا التي دخلت في إطار الحملة التي أسمتها "درع الفرات" بدعوى محاربة الإرهاب على حدودها، لن تقبل بأن لا يكون لها دور في الحرب المعلنة على التنظيم لعدة اعتبارات أهمها خلق مزاحمة للقوات الكردية التي ترفض تسليحها أو دعمها وتصفها بالإرهاب، ومن أجل أن تبين للعالم أنها تساند وتناصر القوى الرافضة للجهاديين ولمشروعهم كمحاولة منها لرفع التهم المرتبطة بها بشأن دعم الإرهاب وتمويله.

وروسيا التي دخلت أيضا إلى جانب النظام السوري بتعلة مكافحة الإرهاب ستجد نفسها محرجة إذا لم تكن شريكا في هذه العملية في ظل الإجماع الدولي حول خطورة هذا التنظيم واعتباره التهديد الإرهابي الأول في العالم اليوم. ولهذا ورغم ما تبديه من مواقف ضد التحضيرات الأميركية للعملية، فإنها ستنخرط حتما في المعركة.

أما النظام السوري المدعوم من المليشيات الإيرانية فهو أيضا سيضطر للتخلي عما يروجه من تصريحات مفادها أن العملية غير قانونية واختراق لسيادة الدولة، وينخرط في العملية ليثبت للعالم أنه شريك في مكافحة الإرهاب. ورغم تعدد جبهات الصراع المفتوحة أمامه اليوم في ظل تصعيد الفصائل المقاتلة هجماتها ضد قواته، فستشهد الحملة المعلنة ضد التنظيم مشاركة الجيش السوري لأنه سيسقط في حرج كبير في حال العكس وهو الذي يعلن في كل مناسبة أنه باق على سدة الحكم لمحاربة الإرهاب.

وفي خضم هذا المسرح المختلط على الساحة السورية، وفي ظل وجود كل هذه القوات، فإن هزيمة التنظيم قد تبدو ممكنة بل حتمية، ولكن قد تفتح نهاية "دولة الخلافة" في الرقة أبواب "جهنم" على الدول التي ينتمي إليها الآلاف من المقاتلين.

والأكيد أن أوروبا خاصة التي أبدت مخاوف كبرى من عودة مقاتليها من بؤر التوتر بعد نهاية الدولة الإسلامية، ستواجه تحديات كبيرة في ظل وجود أعداد كبيرة من أبنائها في صفوف التنظيم. ويرى بعض المتابعين أن الظروف مواتية اليوم لعودتهم أمام حالة التوتر القائمة مع تركيا التي تشكل المعبر الآمن للجهاديين.

وقد يكون أردوغان يقصد هذا السيناريو بتهديده السابق للأوروبيين بأنهم لن يتمكنوا من السير بأمان في أي جزء من العالم. وقد يكون ورقة ضغط جديدة يستخدمها ضد أوروبا التي باتت أبعد من أي وقت مضى عن تركيا.

أما بقية المقاتلين وخاصة التابعين لشمال أفريقيا فقد يستفيدون من حالة التوتر القائمة في ليبيا للتأسيس لحاضنة جديدة قد تتوسع تدرجيا في ظل حالة عدم الاستقرار السائدة في عدد كبير من دول القارة الأفريقية وتعدد التنظيمات المتطرفة هناك.