"ديوان الليل" .. التمثل الشعري للمقدس والمدنس

سوسن العجمي تخرج تمثلاتها الشعرية من الأحكام الأخلاقية والدينية وتحلق في رحاب الفن الحر حيث لا جسد مكبلا بالأخطاء.
الشعر كتعبيرة فنية يغوص في الغامض في النفس
الليل كائن مقدس تتهجى حرفه الذات الشاعرة وتتهجده

بقلم: هيام الفرشيشي  
التمثل الشعري للمقدس والمدنس هو تمثل فني بالأساس يخرج عن دائرة المقدس الديني والأسطوري إلى إبداع من داخل الذات، حيث يعيد المبدع رسم الألوان والدلالات والمعاني انطلاقا من التمثل الرمزي للذات المشبعة بقيم جمالية جديدة، فالشعر إبداع ذاتي وغير متعال عن البشر، فلا أحد يلقنه ولا ينزله بواسطة، ولا يلزمنا باعتناق مبادئه وتنفيذ طقوسه، وبذلك يمثل ثورة على القيم الدينية لأنه ليس مجرد تمرد على قيمه بل يرسي رؤيته الجمالية الخاصة، وينفلت من الموروث الأخلاقي الذي يحاول احتكار الأشياء والمعاني ووضعها في خانة المحرم والمحلل والمقدس. 
والمدنس والمحترم والمنحط. إنه إنزال كائنات السماء التي أبدعها الدين على شكل ملائكة ملهمة منزلة للوحي الى الارض تتماهى معها الذات المبدعة وتشكل صورتها في المرآة، لا تسطيع لمسها الا عبر اللغة الفنية بكل ألوانها وأشكالها ورؤاها وارهاصاتها. ان الشعر كتعبيرة فنية يغوص في الغامض في النفس، في السراديب القصية متتبعا صدى أسئلته الملغزة تقوده إلى مسالك المغامرة المدهشة. 
في "ديوان الليل" تخرج سوسن العجمي تمثلاتها الشعرية من الاحكام الاخلاقية والدينية وتحلق في رحاب الفن الحر حيث لا جسد مكبلا بالأخطاء بل هو خفيف كالروح غير الموشومة بتراكمات قيمية واجتماعية وثقافية، فالفن هو الذي رفع الجسد الى عالم القداسة واحتفى بعريه منذ طقوسه الفنية الاولى عبر المنحوتات واللوحات والفن التصويري، ففي الفن كما الليل يتعرى الجسد من محموله الأخلاقي والديني ويغرق شهواته في الحلم ليشعر بمتعة التطهر في عالم ما وراء المدنس، ليواجه الجسد نفسه طبيعيا خالصا من الشوائب، ومن هنا تتخذ مسلكا مغايرا في 
التعبير عن قداسة الجسد وجماله من جمال الروح ، يقول  fred had:
" نحن نصور العقل أو الروح ككائن سماوي ملائكي ونقي، بينما نصور الجسد المادي كشيء يربطنا بالموت، بالرغبات المتلفة والمعاناة، وبالتالي صورة الفن العاري تذكرنا بأننا أجسادنا. إن الجنسانية والغريزة والوفاة طبيعتنا الفعلية، إن جمال الطبيعة الحيوانية فينا لا يمكن فصله عن جمال روحنا الجسد والطبيعة وما هو حي على الأرض.. تم اختزالهم الى مجرد أشياء، اشياء وجدت لتستغل وتروض بلا رحمة في سبيل ترقية الروح المفترض بأنها طاهرة، لقد عانت الأرض كثيرا بسبب هذا الفصل ".
الليل كائن مقدس تتهجى حرفه الذات الشاعرة وتتهجده وهي موزعة بين ليل منشطر جانب منه يعادل النور والطهارة وجانب آخر يعادل النجاسة والعهر. جانب خير وآخر بكنه الشر، فالليل كوابيس تسترجع عهر النزوات وشهوات النفس. والليل خيال جامح، يرتخي فيه العقل تاركا المجال للمخيلة. فكل التصورات تتغير وكل الصور يعاد تركيبها والفضاءات تتداخل، والأحداث تنمحي فيها حدود المقدس والمدنس وتفقد تحديداتها السابقة. عبر خيال إبداعي تأليفي ويدخل ضمن الفنتازيا والوهم والهلوسة، وشهوات الخيال. 
 بنت الليل 
من غير الممكن ان افتح هذا الليل
المتهم بالشهوة سيفتون
مثلا .. عاهرة يقولون
إن الليل العظيم
يغمس السيئات في البحر 
كي تعود الروح خفيفة ..كالظل".
إن الشاعرة تخرج أحكام الدنس من عالم الليل، الى أخرى متطهرة كما الفن، حيث تذوب الخطايا، وتتخفف من روح من حمل الجسد الانثوي الذي مثل مصدر تراكما للخطايا، كي تعود هذه الروح صافية كالحلم لتعبر عن الظل وعن الباطن.
جريمة
 كل القصائد كتبتها من دمي 
لحمي الآن..
في غيابه مسفوك 
على الليل
إن الشعر هو كتابة بالجسد، بالدم المسفوك على الورقة يجري وينبض في الأوردة والشرايين، يحرك اللغة. والكتابة مغامرة في لون الدم في لون الحياة وهي تتدفق، اللغة ليست مجرد كائن هلامي روحاني انها تكتسي بالألياف. 
أنا امراة فاسقة سابحة في أس الرماد.. ارش الملح على اللحم .. واسقي الجلد تعاويذ المكرة.. 
 أسافر في جراد الليل كالظلام .. واشبع غرائزي من عزيف الجن
من منظار ديني قد يتهم الجسد بالفسوق والدنس، ينفتح على مدلولات الرماد، الملح، اللحم، تعاويذ، غرائز، عزيف الجن، كل هذه المفردات تحيل الى عوالم العتمة والشهوة والطلاسم تضاجع الظلام في النفس الإنسانية. ولكنه جسد له تخيلاته في تماهيه مع كائنات لا مرئية تشبع غرائزه المقموعة بعيدا عن القمع البشري. 
في فضاء الليل يحجب الأعين المترصدة ويفتح أعينا أخرى لجسد مشتعل تنز منه روائح الملح حد الطقوس السحرية. إن منع الجسد من ممارسة الحب يبيح ممارسة طقوس معقدة مع خيالات غير مرئية، حيث يفلت غرائزه ورغباته من الفضاء الاجتماعي المغلف بالدين والأخلاق. فالجسد مراقب ومحظور .
صراحة
شهادة الليل غليظة/ كامراة / سيئة السمعة/ تغمس نعمة الله في ذكورة الشارع.
الجسد الحميمي، رغبوي وجنساني تقيده سلطة اجتماعية أيضا، سلطة الذكورة، فجسد المرأة رهين سلطة الرجل وتقييمه إن كان عاهرا أم موضوع حب حسب علاقته بها، فهو موضوع متعة ايروسية وهو المرذول الدنس ايضا. هو موضوع غزل مادي وهي موضوع العشق. الجسد موضوع احتقار أخلاقي وسقوط ديني.
بينما يبرز تمثل الذات الشاعرة للمقدس من خلال رؤية وجدانية غامضة لصور الكون في حالات تحاكي قوة دينية أو أسطورية خارقة تثير الخشوع والخضوع والرهبة ولكنها تشع باليقين. شعلة لا مرئية ولكنها تشع بإشراقات النور. تماما كالإبداع المقدس، فالإنسان يقدس رموز إبداعه ويقيم لها طقوسها اذ نفذ الى القوة الخارقة التي تسكنه عبر الرمز. 
أنا امراة خاضعة.. مع السماء تنزل ملائكة البياض/ واحميها من وسائد الكوابيس.. العب لعبتي كل ليلة.. واتركها تنام.
ملائكة البياض هي الأحلام الشعرية المقدسة تقدم صورة أخرى للجسد غير ملطخ بالدنس ولم يسكنه الشيطان ولم يأكل من الشجرة المحرمة، بل هي كائنات مقدسة شفافة تشع سلاما ونقاء. ففي حالة الرؤيا لم يعد الجسد منشغلا بتقيء كوابيس المدنس المرعبة تمارس عليه سياط رقابتها حد الترهيب بل يتماهى مع كائنات خارج الزمن الدنيوي.. تنسف كل الضجيج وتبعث حالة من الارتخاء والانتشاء كالجسد الثمل بالحقيقة.
نور
في الليل أرى/ على بعد اصبعين من يدي/ يطؤني نورهن/ ملائكة الأرض
وتجلي التمثل الشعري للمقدس ينكشف عن طريق الرموز، من ملائكة السماء الى ملائكة الأرض بحيث إن القوة الخفية لم تعد تسكن العالم المتعالي المنفصل في السماء بل بطاقة الروح والفكر في تجسيدها لمنظومتها المقدسة، وخصوبة اللغة في حمل تلك الطاقة الخلاقة التي تحدد موقعها كإنسان على الأرض يسيج ذاته ويحميها من تسلط المدنس، وتنحت كينونته إبداعيا وبذلك ينزل المقدس من سلطة السماء الى سلطة الارض، تنم عن قدرة التجربة الذاتية في تجسيد المقدس وهي تجربة شعرية بامتياز.
سهر
خيالي المصاب بحجيج الليل/ يغير لون الكعبة.