ريكان إبراهيم يتلصص على حدائق الموت

الشاعر العراقي يعود إلى كتابة القصيدة الطويلة، التي فقدت حضورها في شعرنا العربي في العقود الأخيرة.
لم أخفِ قلقي وتحدثت معه عن صعوبة تمثل هذه التجربة شعريا
لم يرفض ما اقترحته عليه، غير أنه واصل كتابة مشروعه الشعري

بقلم: حميد سعيد

من خلال تجربته مع السرطان، عاد الشاعر ريكان إبراهيم إلى كتابة القصيدة الطويلة، التي فقدت حضورها في شعرنا العربي في العقود الأخيرة، بينما كان لها حضورها، وبخاصة في منتصف القرن الماضي، وعلى سبيل المثال كلنا عرف مطولات السياب الشعرية، ومنها الأسلحة والأطفال والمومس العمياء، ولم يكن السياب وحده من بين شعراء تلك المرحلة من كتب المطولات الشعرية.
لقد تناول الشاعر ريكان إبراهيم في قصيدته هذه تجربة استثنائية عاشها مع مرض السرطان، وتعايش معه بقلق المريض وخبرة الطبيب وتجليات المبدع المثقف، وإذ التقيت به منذ شهور على غير موعد، في ليلة رمضانية في أحد مقاهي عمّان، لأنه هو الآخر مقيم في الأردن، وحين حدثني عن مشروعه الشعري هذا، لم أخفِ قلقي وتحدثت معه عن صعوبة تمثل هذه التجربة شعريا، وبخاصة حين يكون هذا التمثل في قصيدة واحدة، بل لقد اقترحت عليه أن يتناولها نثرا، في رواية أو مسرحية أو مذكرات، ولم يرفض ما اقترحته عليه، غير أنه واصل كتابة مشروعه الشعري.
لقد سبق لي منذ سنوات، كتابة مقالة عن سرطانات المبدعين، وما قادني إلى تلك المقالة، رواية "بيضة العقرب" للروائي محمود عيسى، حيث تمثَّل فيها تجربته السرطانية، كما تناولت بهذا الشكل أو ذاك، سرطانات فؤاد التكرلي وعبدالقادر الشاوي ومحمد زفزاف ومحمد شكري ومحمد طمليه.
يتشكل مفتتح مطولة "تلصّص على حدائق الموت"، وعندي فإن العنوان يمهد بجدارة إلى دخول فضاء التجربة، من خلال ثنائية القصيدة والسرطان أو الشعر والمرض، ومن دون تمحل، فهي ثنائية الحياة والموت، ولأن الشاعر الآتي من حال تصوفه، يعيش قلق الإبداع بعيدا عن قلق الموت، وكأنه يعرف أن القصيدة تشاكس الموت وتنتصر عليه، كما يعرف أيضا، بتجربته الثقافية وخزينه المعرفي، أنّ أعمار المبدعين لا يحدّدها الزمن.

الشاعر حين تمثل تجربة السرطان شعريا، لم يقصد إنجاز أطروحة علمية، كان بإمكانه أن ينجزها بقدراته العلمية، بل استطاع وهو يتلصّص على حدائق الموت أن يحقّق إنجازا جماليا، ينضاف إلى فضاء الإبداع ويزيده ألقا واتساعا

الشاعر حين تمثل تجربة السرطان شعريا، لم يقصد إنجاز أطروحة علمية، كان بإمكانه أن ينجزها بقدراته العلمية، بل استطاع وهو يتلصّص على حدائق الموت أن يحقّق إنجازا جماليا.
من هنا كانت الطمأنينة حاضرة، في لغة القصيدة وجمالياتها ومقولاتها "أهذا هو الموت جاء ولم يختر مني؟ أيمكن هذا لأني عصيٌّ عليه، فبين يديه، نعم في يديه ويُحجِمُ عني".
وفي هذه الطمأنينة بمصدريها الإبداع والتصوف، يصف الموت قائلا "صديقي على الرغم منّي".
وبعد أن اقترب الموت منه اكتشف أنه تجربة فريدة، وكان قبل أن يقترب منه، يسمع به أو يراه مع سواه. وفي أحلك ساعات الإنسان وأكثرها انفتاحا على نهايته، تسعفه القصيدة أكثر ممّا تسعفه الشجاعة أو ادعاء الشجاعة، وليس سوى القصيدة مذ تطفل السرطان على جسده، من فتح له بابا على ما رآه، لحظة آسرة، رغم أنه كإنسان، يدرك "إن الموت أصعب من كل ما قد رأى".
وتتواصل القصيدة وتمتد في أرض الشعر بعيدا، وبمفردات الحياة تتوحّد مع الموت الأليف، وفي فضاء الاعتراف، تتذكّر وتحلم وتحاور وتنتظر، وتستقبل الذي لا بد أن يأتي بكل هدوء.
وإذ كنت أقرأ القصيدة، وأعيد قراءتها، أجدني أتساءل، لو لم يكن ريكان إبراهيم شاعرا، ولو رأى سرطانه بعين المريض أو بعين الطبيب، فهل كان باستطاعته أن يجعل من الموت صديقا؟ وهذا لا يعني دعوة إلى الموت واستسلاما له، بل هو إدراك لحقيقة لم تتغير، منذ بدء الخليقة ولن تتغير، مذ حاول العقل الأسطوري من خلال محاولة غلغامش الوصول إلى نبتة الخلود والحصول عليها، غير أنه عاد خائبا، إذ لا يمكن للأسطورة أن تحل محل الحقيقة.