عندما تكون المدن طاردة لأهلها

يغادر الشاب الإيطالي مدينته فينيسيا بمجرد امتلاكه قدرة المغادرة! هناك شعور طارد لأبناء المدينة وهم في مقتبل العمر هو بنفس قوة الجذب الجغرافي لزائري المدينة العائمة فوق الماء. يشعر الشباب بأن مدينتهم لم تعد ملكهم، فهي مجرد فندق موزع الغرف على امتداد النهر والسواقي، مقاه ومطاعم لا تخلو أبدا من الزبائن الطارئين لذلك لا تخسر، فصاحب المقهى لا يعرف زبائنه لأنهم يتغيرون كل ساعة، ليس ثمة رواد معروفون من أهل المدينة، السؤال الأهم هو أين أهل مدينة فينيسيا؟

ما بقي منهم جيل في ستينات وسبعينات العمر، على الأغلب تدرّ عليهم عقارات تحولت إلى فنادق أو مطاعم، ويعيشون متبرمين على هامشها، لا يرحبون بالزائرين، يبدو ذلك واضحا على وجوههم في العبّارات العائمة، وإذا قدّر لهم أن يجالسوا أيّا من السياح في حانات المدينة التي تنام مبكرا!

قال لي عامل المقهى المولدافي، إن فينيسيا مدينة غير قابلة للسكن، هي مجرد فندق عائم لا تطول الإقامة فيه حتى للهائم بها، لذلك لا ترى أيّا من شبابها، فهم جميعا ينتظرون الفرصة كي يغادروها، بقاؤهم يعني على الأغلب أن يديروا المطاعم والفنادق أو يعيشوا على عقارات آبائهم وأجدادهم التي تحوّلت جميعها إلى فنادق! ومثل فرصة الاسترخاء هذه تقتل الرغبة في الحياة لديهم، لذلك يفضل اغلبهم الهرب من مدينة يزورها يوميا مئات الآلاف ويتوق إلى رؤيتها الملايين في أنحاء العالم.

لفت نظري متجر صغير لأنه بلا هوية فقد جمع ما يحتاجه السياح من بضاعة لا جامع بينها، تجد لديه شاحنات الموبايل مثلما تجد زجاجات المياه والمشروبات، وقد اتخذ أربعة رجال في سبعينات العمر من زاوية فيه مكانا لاحتساء مشروبهم والتحادث مع البائع، هكذا فقد هويته ليكون متجرا وحانة ومقهى، لكنه لا يقدم مثل هذه الخدمات لأي من السياح!

فأهل فينيسيا يهربون من المطاعم والمقاهي ليصنعوا أماكنهم الخاصة، أديت التحية على الرجال الأربعة بعد كلمات ودودة مع البائع، علني أستنطقهم في الكلام، بعد أن رأيت وجوه غالبية أهل المدينة متجهمة وهم يشاركون الزوار الحافلات النهرية، قلت لهم يبدو أن ملايين الزائرين يسرقون الهدوء من المدينة ولا يبقون لكم مكانا خاصا؟ شكرني أحدهم على الملاحظة قائلا: حقا فينيسيا لم تعد مدينتنا بسبب كذبة الجغرافيا العائمة، فيما التاريخ بقي مجرد تمثال في كنائسها ومتن رواية شكسبير “تاجر البندقية”! لم يقل هذا الرجل الفينيسي لا أهلا ولا مرحبا بكم في البندقية لأن أموال الزائرين تدرّ عليه ذهبا، لكن ملامح وجهه لا تخفي مثل هذا الشعور، ففينيسيا مدينة غير صالحة للسكن لا بسبب جغرافيتها النادرة، بل لأنها أضحت مكانا عابرا للزائرين لا أكثر!