غطرسة الصحافي أم عبثية الآخر!

استعدت نصوصا جميلة في تجربة كريم العراقي من أجل مقارنتها بسطحية قصيدة “دلوعتي” موضوع الجدل اليوم. فيما يشبه الإجابة على الكلام المتشنج الذي اتهمني بالجهل في الاطلاع على شعر العراقي.
كريم العراقي وكاظم الساهر

استحوذ حدثان على مهامي الصحافية هذا الأسبوع، من دون أن أفقد يقظتي في المتابعة، إذ لا يمكن نسيان أن عليّ النظر بأكثر من عين والسماع بأكثر من أذن والقراءة حتى وإن تطلب الأمر أن أقوم بذلك وأنا آكل! لا أحد غير الصحافي يبدو لي يأكل ويقرأ.

تحول مقالي في الحدث الأول عن الصديق الشاعر كريم العراقي بشأن قصيدته “دلوعتي” للفنان كاظم الساهر، إلى محكمة عبثية شارك فيها المئات من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بوصفهم قضاة في الذائقة والموضوعية وعدم التحامل، من أجل الحكم عليّ بـ“الغطرسة” وكانت هذه أقل الصفات تهذيبا والتي يمكن ذكرها، دعونا من الشتائم والاتهامات بالجهل والبحث عن الشهرة وعدم احترام تجاوب الملايين من جمهور الساهر والعراقي مع الأغنية.

وبوصفي “المتغطرس” أيضا بالنسبة لعبثية بعض قراء مقالي عن العراقي والساهر، كان عليّ أن أصبر على اتصالات كاتبة عربية أجرى معها أحد الزملاء حوارا صحافيا بشأن كتابها الجديد الصادر باللغة الفرنسية، ونشر لدينا قبل أسابيع بشكل متميز، وأستمع إلى احتجاجها في ثلاثة اتصالات استغرقت ما يقارب ساعة من الكلام بشأن طريقة نشر الحوار، مطالبة بحذفه من الجريدة، ولا أعرف لماذا لم تفكر بأن الصحيفة ورقية وقد طبعت وتوزعت، وربما أرشفت المؤسسات البحثية والمكتبات الحوار في نسخته الورقية.

كان عليّ أن أستمع إلى هذه السيدة وهي تعبر عن اعتزازها بنفسها وبما تكتب، وأن ما نشر لا يليق بها وفق تصورها، من دون أن أفقد رباطة جأش الصحافي من أجل إرضاء غرورها، وإيضاح الأمر ببساطة أن الحوار قد نشر منذ أسابيع، وصار جزءا من التاريخ الصحافي، ومن المجدي إذا أردنا التغيير أن ننظر إلى المستقبل.

لم ينته إلحاح السيدة في اتصال واحد، بل تلاه أكثر من اتصال محمل بالاحتجاج والمطالبة بحذف الحوار، ومع ذلك لم أغادر دروسي الأولية في الصحافة، أن أكون أهدأ من معلم صبور وأحترم رغبة المتصلة، والتفكير بطريقة ترضيها. فمهارة التحاور مع الناس والاستماع إليهم أكثر صعوبة من كتابة المقالات الصحافية.

في المقال عليك أن تصنع فكرة جديدة، وفي التحاور عليك أن تثبت لياقة الاستماع واختيار الرد المناسب والتوقيت المناسب، وفي النهاية إرضاء الآخر، فكرة “الزبون دائما على حق” تصلح أحيانا في عالم الصحافة أيضا.

أمضيت ما لا يقل عن خمسين ألف ساعة من حياتي وأنا أحاول تعلم كيفية كتابة مقالات لائقة، كنت تعلمت خلالها كيف أحترم وعي القراء وأنا أعبر عن أفكاري، أو أجتهد في صناعة فكرة جديدة.

لهذا تقبلت حملة الكلام العبثي على تداعيات مقالي بشأن قصيدة كريم العراقي، لا يمكن أن أبالي بالشتائم والاتهامات، لكنني مهتم بكل رأي يشخّص الضعف في الفكرة والرأي في متن المقال.

لم أكتب مقال “مفردات صماء في دلوعة العراقي والساهر” في لحظة انفعال شخصي أو مزاج سيء، بل كان نتيجة فكرة اكتملت بعد الاستماع إلى الأغنية أكثر من عشر مرات، والاستماع إلى رأي صديقي الشاعر كريم العراقي بشأن القصيدة نفسها، تحاورنا على الهاتف أكثر من نصف ساعة، وكشف لي مبررات كتابة النص، وكم سيكون الأمر مفيدا إن تحدث العراقي بشأنه في مقال أو حوار تلفزيوني، على الأقل من أجل تهميش العبث المستمر على مواقع التواصل الاجتماعي.

من المخيب أيضا أنني سمعت آراء لفنانين وشعراء كبار أصدقاء لكريم العراقي وزملاء صحافيين، يثنون بشدة على فكرة المقال ويعتبرونها معبرة عنهم بامتياز، لكن الخيبة تكمن في أن أغلبهم ممن يظهرون على شاشات التلفزيون يصرحون بآراء مختلفة كليا عندما يتحدثون عن العراقي والساهر، الخيبة المضافة أنهم مثلي يعرفون الشاعر والفنان منذ عقود!

أملك الحق في “الزعم” بأنني قرأت أو استمعت إلى شعر كريم العراقي منذ أول أغنية له عن الطفولة تغنت بها حناجر الملايين من الأطفال في العراق مع صوت مي أكرم، وعندما جمع الدمع بالكحل في أولى أغـانيه العاطفية لصوت الفنان سعدون جابر، برع المـوسيقـار محسن فرحان في التعبير عن روح النص، لذلك بقيت هذه الأغنية حية تنبض بالتعبيرية بعد أكثر من خمسين عاما على كتابتها، ومثل هذا الأمر دفعني أيضا إلى استعادة نصوص جميلة في تجربة العراقي من أجل مقارنتها بسطحية قصيدة “دلوعتي” موضوع الجدل اليوم. ربما هذا الكلام يعد أشبه بالإجابة على الكلام المتشنج الذي اتهمني بالجهل في الاطلاع على شعر كريم العراقي.

وفي النهاية يمكن أن أصل إلى درس مكرر ومفيد من التجربتين الصحافيتين اللتين مرتا عليّ هذا الأسبوع، إلى أن الغطرسة لم تكن يوما موضع فخر بالنسبة للصحافي المخلص لفكرة ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، بينما سلبت الحرية المتاحة في مواقع التواصل الاجتماعي منا الفكرة الصحيحة لتعريف مفهوم القارئ الذي صار ملتبسا “من يقرأ ومن يعبث” ودفعت نسبة مخيفة من المستخدمين إلى عبثية إطلاق الكلام، هناك عبث مستمر من قبل الآخر غير المسؤول يقابل كل رأي صحافي أو تحليل، سيبقى هذا العبث متاحا للتعبير عما يكره الإنسان بل لو تسنى له الانتقام لفعل ذلك.

من حسن حظي أن التقنية لم تتطور بعد إلى درجة أن من عبروا عن كراهيتهم لي بشأن ما كتبت عن العراقي والساهر، لم يتسن لهم إطلاق شحنة كهربائية لقتلي مع الآراء التي وصلتني عبر المنصات الاجتماعية. فهذا السلاح في العصر الرقمي ما زال غير متاح إلى اليوم!