لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية

الاعتماد على الأديان في تنظيم الحياة أمر خطير جدا.

"لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية". هذه مقولة أخرى شهيرة لابن خلدون في مقدمته الخالدة، وعندما تقرأ أن العرب ساءت أحوالهم لابتعادهم عن الدين، فهذا صحيح، فعندما تذهب خشية الله من قلوبهم، يعودون إلى توحشهم ونزقهم، وذلك أن التغيير الذي أحدثه الدين في نفوسهم، مستجلب من السماء وليس نابعا من الفؤاد. وشتان ما بين الأمرين. فعندما يتغير الإنسان داخليا، يدوم هذا التغيير ولو تبدلت الأحوال، وعندما يكون مصدر التغيير خارجيا، لا يثبت المرء عليه، ويعود إلى طبيعته عند أول فرصة. فالخلفاء الراشدون قتلوا جميعا، وارتد كثير من المسلمين فور وفاة الرسول. وذلك لأنهم ربطوا الانضباط بقوة غيبية عقابها مؤجل إلى أجل غير معلوم.

في المقابل، كانت الثورة العلمية التي حدثت في عصر النهضة في أوروبا عملية تدريجية وتراكمية، ساهم فيها عدد من الفلاسفة والمفكرين، وأدت تلك الإسهامات إلى تحول فكري عميق وفهم مختلف للحياة، وانتقل المجتمع من سيطرة المؤسسات إلى الحريات الفردية تحت ظل القانون ودونما تدخل من الكنيسة. ويرى البعض أن اختراع آلة الطباعة كان لها الأثر الكبير في هذا التحول، ولكن هذا الرأي غير سليم بالنظر إلى توفر الكتب في أيدي الدول الأقل نموا وتقدما، ومع ذلك فهي لا تؤثر فيهم، ورغم تعدد التفسيرات، والإحجام عن رد هذا التحول إلى التفوق العرقي، إلا أنه يبدو أن نظرية التفوق العرقي هي الراجحة. فلكي ينظم الناس شؤونهم، فإنهم يحتاجون إلى قدرات عقلية متميزة، تمكنهم من تنظيم أنفسهم ذاتيا، لا خوفا من الجنة والنار. ونظرا لشعورهم بتميزهم فإنهم لا يقبلون بإعطاء أي إنسان قدرا ومكانة أكثر من غيره، سواء كان حاكما أو رجل دين أو عالما أو فيلسوفا، وكل إنسان يأخذ ما يحدده له القانون من مال. أما المكانة الاجتماعية، فهذا يعتمد على تقدير الناس لإنجازاته، وقد حظي العلماء بالتكريم والتعظيم.

إن من بين العرب من يتميز بقدرات مشابهة للإنسان في الدول المتقدمة، لكن التغيير الاجتماعي ليس اختراعا أو اكتشافا يعتمد على الأفراد، ولكنه وعي عام يجب أن يشمل غالبية أفراد المجتمع لكي يحصل التغيير. ففي البلدان المتقدمة، اتفق الناس على وضع قوانين لا شأن لها بالأديان، وتركوا الدين علاقة شخصية بين العبد وربه، واتجهوا إلى تطبيق القانون ومراقبة المسؤولين وتغييرهم إذا فشلوا ومعاقبتهم إذا فسدوا. أما عند العرب، فهم لا يتفقون على منهج واحد ما لم يكن متصلا بالدين والجنة والنار، لذا فإن مجال الفساد يكون أوسع من سيادة القانون، لأن هناك مسلمين بالشكل فقط، ولكنهم فاسدون ولم يلين التدين قلوبهم ولم يهذب سلوكهم ولم يرتق بتفكيرهم. فكيف للمرء أن يميز الفاسد من المستقيم ما دام الكل يدعي الورع والتقوى؟

لقد سبقتنا الأمم في العمل والإنجاز ورفع مستوى المعيشة، وحتى شخصياتهم تبدلت، فأصبحت شفافة وتتحمل المسؤولية، وتلتزم بالقانون في كل الشؤون العامة، أما حياتهم الشخصية، فهم يتمتعون بحريات كثيرة، والمرأة كالرجل، تحصل على حقوقها كاملة. وحتى عند الطلاق، تقسم الممتلكات بينهم، ويجبر القانون الرجل بالإنفاق على أولاده وطليقته حسب إمكاناته، وليس بالتراضي كما يحدث في بلادنا، وليس من سعة الرجل وطيب أصله كما يريد قانون الأحوال الشخصية، ولا تخسر المرأة مالها الذي أنفقته لتأمين ضرورات الحياة للأسرة وبث السرور فيها، ولا يقولون لها "لم يجبرك أحد على الإنفاق" فتندم على حسن السلوك والأخلاق العالية. كما أن الطفل له حقوق قانونية ليست متروكة لتقدير الوالدين، وإذا رأت المعلمة إصابات على الطفل، فواجبها التبليغ عنه ليجري التحقيق فيما إذا كان الطفل مهملا في بيته، وإذا تراجع الطفل دراسيا أو لوحظ عليه حزن وكآبة، يتم التواصل مع الوالدين للوقوف على حقيقة وضع الطفل.

إن الاعتماد على الأديان في تنظيم الحياة أمر خطير جدا، وذلك لأن الكتب المقدسة ليست دساتير ولا تنظم الحياة اليومية بوضوح، وفيها أدلة على شيء معين وأدلة على نقيضه في نفس الوقت، وتختلط الأمور ويختلف الناس في تفسيرها، وينقسمون إلى طوائف متناحرة،  فهناك طائفة من المسلمين تؤمن بالغزو والسبي وتحرم التعليم (مثل تنظيم بوكو حرام في نيجيريا) وهناك طائفة أخرى تؤمن بالحضارة والسلام، وهناك طائفة تسب الصحابة وهناك طائفة تذود عن الصحابة، وهناك طائفة تحلل الزنا بأقنعة أخرى مثل زواج المتعة وجهاد النكاح. وفي الآونة الأخيرة أصبحنا نسمع نفيا للاكتشافات الفلكية، والتزاما بالآيات التي تقول أن الأجرام السماوية ليست نجوما وكواكب، بل هي مصابيح زين الله السماء بها، ولها استعمال آخر وهو رجم الشياطين.

ألسنا في غنى عن كل هذا؟ ألم تجرب الأمم المتقدمة سيطرة الكنيسة، واكتشفت أن ذلك يقودها من ظلام إلى ظلام، فغيرت نهجها ووضعت قوانين لكل شيء وحاربت الفساد وأطاحت بالفاسدين ومن ثم أحرزت تقدما منقطع النظير؟ بل لقد أصبح الإنسان يتمتع بالحياة ويحس بطعمها ويشعر أنه يعيش فعليا روحا وجسدا، وأصبح الإنسان أكثر ثراء وأحسن صحة وأقوم أخلاقا وأقوى وأكثر علما ويجوب البلاد سائحا ويموت راضيا ومقتنعا بحياته، أليس هذا أفضل ممن يقضي عمره وهو يصارع متطلبات الحياة وحين يشيخ ويقترب أجله يكتشف أنه لم يعش؟