لا يتغلبون إلا على البسائط ولا ينتصرون إلا على الضعفاء

الشخصية العربية مزدوجة فهناك عقل خفي له السطوة وهناك عقل ظاهر غير فعال للاستخدام العلني.

قال ابن خلدون في الفصل الخامس والعشرين من مقدمته ما يلي "العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ولا ينتصرون إلا على الضعفاء وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى الزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنهم لا يتسنمون، إليهم الهضاب ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر وأما البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهار لا رب غيره.."

في هذا التحليل للشخصية العربية، يتنبأ ابن خلدون بخراب بلاد العرب، وذلك بسبب اعتماد القوة وليس القانون في أسلوب الحياة، فيسهل عليهم الاعتداء على الضعيف وسرعان ما يستسلمون للقوي. ومن أبرز مظاهر هذا التوجه ما جرى في الآونة الأخيرة يثبت صدق تحليله، فمن أين جاء هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فسادا وخربوا العمران وقتلوا الأطفال وسبوا النساء، ألا يدل ذلك على أنهم همجيون ولا يستبسلون إلا على الضعفاء، وها هي إسرائيل أمامهم منذ قرن، وطالما أن لديهم كل هذا الجبروت، فلماذا لم يجربوا التسلل إليها والتنكيل بها كما فعلوا في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟ لم تظهر هذه الروح القتالية العالية إلا على المدنيين ولو أنهم وجهوها إلى إسرائيل، لاستطاعوا هز أركانها، ولكنهم يعرفون أن الهجوم على المدنيين أسهل فهم مسالمون ولا يحملون السلاح. أو ربما يغدرون بحامل السلاح غدرا كالقنبلة التي وضعوها تحت سيارة للشرطة في الأردن في الأسبوع الماضي.

المشكلة الكبرى أن الدول القوية تفهم الشخصية العربية جيدا، ولولا ذلك لما توغلوا في البلاد العربية وفككوها وجندوا الآلاف منهم للتخريب لا للتحرير والعمران، ولو حاولوا فعل ذلك في أية دولة أخرى لما استطاعوا، وكم حاولوا التغلب على الصين وكوريا وما استطاعوا، وحين دخلت الصين المنافسة الحرة في التجارة خاضت التنافس بالعقل فتغلبت على الولايات المتحدة وربحت الكثير، فسال لعاب كوريا الشمالية، وأرادت أن تحذو حذوها، فخافت الولايات المتحدة، ولم يتفقوا لغاية اليوم، فماذا قال العرب؟ قالوا أن زعيم كوريا الشمالية استسلم للولايات المتحدة، وهو لم يستسلم، بل وجد الفرصة سانحة لإلحاق مزيد من الدمار بالاقتصاد الأميركي حين تدخل ميدان التجارة الحرة.

وعلى المستوى الاجتماعي، فإن الدول العربية هي الأكثر فسادا في العالم، وذلك لأن المسؤول ينهب المال العام، ونظرا لتحصنه بحماية الدولة، فإن عامة الناس لا يتصدون للفاسد، بسبب العقلية التي تجعلهم يخضعون للقوي ولا يواجهونه. إن القاعدة غير المعلنة التي يعمل العرب وفق أسسها هي الاستقواء على الضعفاء في شتى المجالات، مدنية كانت أم عسكرية، فدائما هناك فئة مستضعفة لا تحصل على فرصتها في العمل أو المنصب أو المشاركة في صنع القرار، ودائما هناك علية القوم الذين يستفيدون من كل مقدرات الدولة، وهناك فئة تعمل وتكدح ولا تحصل إلا على الفتات، ولا يمكنها أن تعترض.

وهناك مظاهر أخرى للاستقواء على الضعيف داخل الأسرة، إذ أن النساء والأطفال غالبا ما تهضم حقوقهم، ولا يوجد قانون صلب يمنع التعسف ضدهم، فالمجتمع ذكوري ويكرس سلطة الذكر بصرف النظر عن المصلحة العامة للمجتمع التي تقتضي وجود أفراد أقوياء في ظل قانون قوي. وهذا يعني تربية شخصيات مهزوزة وتتعود على قبول الظلم كأمر عادي. إذ أن الطفل نشأ وهو يرى خنوع أمه وأخواته وتعود على ذلك، وحين يخرج إلى المجتمع، يرى الظلم ويتقبله لأنه تربى عليه. ونظرا لأنه مجتمع ذكوري، ترهق المرأة نفسها بالإنجاب لكي تنجب ولدا، تستمد منه قوتها ومكانتها، وتخضع للزوج خضوعا كاملا كي لا يطلقها، حتى وإن كان شبه آدمي.

وثمة مظهر اجتماعي آخر يؤكد وجود هذه عقلية الاستقواء على الضعيف والخضوع للقوي وسيطرتها على التفكير وهي الاحتماء بالعشيرة، فهناك عشائر تفتخر بقوتها ومكانتها والآخرون يعترفون بقوتها والخضوع لها. وهذا له آثار سلبية وخيمة على المجتمع، حيث أن أصحاب الكفاءات لا يحصلون على فرصة لأنهم من عشائر ليست ذات سطوة، والخاسر الأخير هو المجتمع، فبعد فترة من سطوة هذا التوجه، يجد الناس أنفسهم ضعفاء وفقراء ومتخلفين عن سائر الأمم، لأنهم لم يستغلوا الطاقات الفعالة، وأعطوا المناصب بناء على اسم العشيرة وليس بناء على قدرة الأشخاص، والنتيجة النهائية هي بلد كسيح غير قادر على النهوض.

بالطبع، ليس هناك شخصية واحدة لجميع العرب، ولكننا هنا نتحدث النمط العام أو ما أطلق عليه عالم النفس السويسري كارل يونغ "العقل الجمعي"، وهي الطريقة التي يفكر بها أبناء المجتمع الواحد، وهي التي تجعل شخصياتهم الفردية تنصهر في قالب عام رغما عن أنوفهم، وهذا القالب يختلف كليا عن الدين وعن القانون، وكأنه روح منفصلة تسري في الأثير، تجعل الإنسان يتصرف بموجبها كي لا يتعرض للعقاب أو الإقصاء الاجتماعي لأنه شذ على التفاهم غير المعلن بين الناس. لذا نجد أن هناك حقائق واضحة للجميع ولكنهم ينكرونها، ويلتفون حولها ويقنعون الناس بعكسها، حتى تتشكل ثقافة خفية هي الأصل وثقافة علنية كواجهة يختبئون خلفها. ومن هنا فإن الشخصية العربية مزدوجة فهناك عقل خفي له السطوة وهناك عقل ظاهر غير فعال للاستخدام العلني. فالكاتب يمارس رقابة ذاتية على ما يكتب، ويهذب كلماته ويقص أجنحتها لينجو من المساءلة، ودعاة الأديان يعرفون أن فيها تناقضات غريبة، وفيما يخوض العالم فيها، فإن العربي هو الوحيد الذي لا يجرؤ على ذلك كي لا يجز عنقه، والقوانين المتعلقة بالنساء والأطفال مجحفة، ولا أحد يحرك ساكنا لتعديلها، والفاسدون يودعون أموالهم في الخارج والأثرياء لا يستغلون أموالهم في التنمية لصالح وطنهم، ومع ذلك فهم يتمتعون بصيت ذهبي من حيث الوطنية والانتماء، وعندما يتجرأ الشباب للخروج إلى الشارع، تبح حناجرهم وهم يؤكدون أن المسيرة سلمية كي لا يبطش أحد بهم.

ألا يتغير العقل الجمعي؟ ألا تتغير الشخصية المجتمعية من سلبية إلى إيجابية ومن هدامة إلى بناءة ومن ضعيفة إلى قوية؟ بلى إنها تتغير، والدول المتقدمة خير مثال على ذلك، فبعد أن كانت الكنيسة والحكام يفرضون إرادتهم على المجتمعات، أصبح القانون هو الحاكم، والحريات الفردية مصانة، ولا مكان للفساد، ولا مكان للعشيرة، والفرد الكفؤ هو الذي يحصل على منصب قيادي يرفع به المجتمع ولا يستغله ليرتفع به، فمتى يتغير الوعي الجمعي في بلاد العرب؟