لماذا لا يقلّد خامنئي... الخُميني

يبقى ترامب رجل صفقات. يمكن لإيران ان تراهن على صفقة ما معه.

امام ايران طريقان للرد على العقوبات الاميركية. يتمثّل الطريق الاوّل في القبول بالواقع الجديد والرهان على امكان عقد صفقة مع إدارة دونالد ترامب. هذا الطريق لن يكون متاحا الّا عبر حوار صريح من دون شروط مسبقة وفي ظلّ المباشرة في تطبيق العقوبات الاميركية الجديدة التي يبدو انّها بدأت تفعل فعلها.

الطريق الآخر هو طريق التصعيد. وهذا يعني استخدام ايران لأوراقها في العراق وسوريا ولبنان واليمن... وكأنه لا يكفي ما لحق بهذه الدول وشعوبها من اضرار ودمار وبؤس ومصائب بسبب المشروع التوسعي الايراني والاستثمار الخطير في اثارة الغرائز المذهبية.

لا وجود لأي معنى سياسي للكلام الايراني عن رفض أي حوار مع واشنطن في ظل العقوبات الاميركية. لولا العقوبات التي دخلت حيز التنفيذ في الايّام القليلة الماضية، لما كان هناك اصلا أي كلام أيراني عن حوار او حتّى رغبة في الحوار. كلّ ما كان مطلوبا، إيرانيا، من إدارة ترامب، في مرحلة ما قبل العقوبات، هو التصرّف على طريقة إدارة باراك أوباما. لسوء حظ ايران، تغيّرت الادارة في واشنطن. الى اشعار آخر، ترامب ليس أوباما. قد يتبيّن في النهاية انّه أسوأ منه، لكنه شخص مختلف كلّيا عنه. لم يعد هناك في واشنطن من يعتقد ان الملفّ النووي الايراني يختزل كل مشاكل الشرق الاوسط وأزماته وان دفع كلّ الاثمان المطلوبة من اجل التطبيع مع ايران هدف بحدّ ذاته. لم يعد هناك في واشنطن من هو مستعد لاسترضاء ايران بأي شكل وبأيّ ثمن من اجل الوصول الى اتفاق في شأن ملفّها النووي. هناك إدارة قررت الانسحاب من الاتفاق المتعلّق بالملف النووي الايراني من منطلق انّه "الأسوأ" بين كل الاتفاقات التي توصلت اليها اميركا في يوم من الايّام.

باختصار شديد، ثمة واقع جديد ليس في استطاعة ايران تغييره. في اطار هذا الواقع، لم يعد الجانب الاميركي مستعدا للتغاضي عن التصرفات الايرانية خصوصا في سوريا حيث كانت ايران وميليشياتها المذهبية تسرح وتمرح الى ان جاء من يقول لها ان عليها الابتعاد خمسة وثمانين كيلومترا عن الجنوب السوري، فاذا بها تبتعد مئة كيلومتر. الأكيد انّه لا يزال هناك وجود إيراني في الجنوب السوري وفي دمشق نفسها، لكنّ هذا الوجود لم يعد مكشوفا كما في الماضي. صار على الايرانيين والتابعين لهم التخفي خلف بزات الجيش السوري والألوية التابعة لبشّار الأسد.

هناك مرحلة جديدة اطلّت برأسها في اليوم الذي اعلن فيه ترامب في ايّار – مايو الماضي الانسحاب من الاتفاق النووي تاركا للأوروبيين تقليع شوكهم بيدهم وللروس البحث عن كيفية الوصول معه الى صيغة تفاهم تتعلق بكيفية معالجة الوجود الايراني في الداخل السوري. كيف ستتعاطى ايران مع هذه المعطيات الجديدة التي ترافقت مع تدهور سعر صرف الريال الايراني من جهة وتذمر اجتماعي على كلّ المستويات من جهة أخرى؟

تستطيع ايران التعلّم من تجربة عمرها ثلاثين عاما. في مثل هذه الايّام من العام 1988 قرّر آية الله الخميني تناول "كأس السم". أوقف حربا مع العراق استمرّت ثماني سنوات. جعلت الواقعية السياسية الخميني يتخذ وقتذاك مثل هذا القرار الصعب الذي كان معناه هزيمة إيرانية وشبه انتصار للعراق في الحرب المكلفة التي خاضها الجانبان وكلفت مئات آلاف القتلى والمعوقين وخراب مدن بكاملها ومليارات الدولارات. كانت النتيجة وصول الجانبين الى طريق مسدود. كانت حربا عبثية، اللهمّ الّا اذا استثنينا ان العراق منع بتلك الكلفة الضخمة اجتياحا إيرانيا أيديولوجيا لاراضيه، وهو اجتياح ما لبث ان تحقّق بفضل الاميركيين في العام 2003. في تلك السنة، دخل قادة الميليشيات المذهبية العراقية، الذين حاربوا العراق وجيشه، الى بغداد على دبابة أميركية واعلنوا انتصارهم على البلد الذي يفترض انّهم ينتمون اليه.

ما الذي يمنع القادة الايرانيين الحاليين، على رأسهم "المرشد" علي خامنئي من ان يحذوا حذو الخميني الذي استطاع في النهاية الانتقام من العراق وهو في قبره. استطاع ذلك بعد المغامرة المجنونة التي ارتكبها صدّام حسين باحتلاله الكويت في آب – أغسطس من العام 1990، فاتحا الأبواب على مصراعيها امام انهيار العراق وصولا الى الوضع الذي وصل اليه اليوم.

استسلم مؤسس "الجمهورية الإسلامية" في ايران امام العراق بعد القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة بوقف الحرب العراقية – الايرانية. كان كافيا ان يسقط صاروخ انطلق بـ"الخطأ" من قطعة حربية أميركية هي "فينسينز" طائرة ركاب إيرانية من طراز "ايرباص" فوق مياه الخليج كيف تصل الرسالة الى طهران. فحوى الرسالة ان ايران تستطيع تحقيق انتصارات على العراق والاستفادة الى حد كبير من الأخطاء السياسية التي يرتكبها شخص مثل صدّام حسين لا يعرف الكثير عن موازين القوى الإقليمية والدولية، لكنّها لا تستطيع الدخول في أي مواجهة مباشرة من ايّ نوع مع اميركا. هذا ما استوعبه الخميني، الذي غطّى حصول ايران على أسلحة إسرائيلية في حربها مع العراق، استيعابا جيّدا.

لماذا لا يسير خامنئي على خطى الخميني؟ لماذا لا يقلّده؟ ليس عيبا الاستسلام امام قوة كبرى مثل الولايات المتحدة. سبق لألمانيا ان فعلت ذلك، كذلك اليابان. في النهاية، يبقى ترامب رجل صفقات. يمكن لإيران ان تراهن على صفقة ما معه وذلك قبل ان تؤدي العقوبات الاميركية التي ستدخل في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل الى نتائج اكثر خطورة في الداخل الايراني نفسه؟

المسألة مسألة وقت فقط قبل ان نكتشف ما اذا كانت ايران ستعتمد الواقعية التي مهّد لها الخميني قبل ثلاثين عاما... ام ستسير في التصعيد، أي في اعتبار العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحتّى قطاع غزّة، "ساحات". يمكن استخدام هذه "الساحات" امّا للتحايل على العقوبات الاميركية وتجاوزها وامّا لخلق حروب تعتقد ايران انّها تؤذي الاميركيين. لن يخرج مثل هذا الطريق الشائك ايران من ازمتها، التي هي ازمة داخلية قبل ايّ شيء آخر، لا خلق مشاكل كبيرة في العراق ولا تعطيل تشكيل حكومة في لبنان ولا التحرش بـ"القوة الدولية" في جنوب لبنان، كما حصل قبل بضعة ايّام، ولا تنفيذ انسحاب ملغوم من الجنوب السوري... ولا التهديد بتعطيل الملاحة في البحر الاحمر او اغلاق باب المندب او مضيق هرمز.

يفترض الّا يشكل الاستسلام للولايات المتحدة عقدة في العام 2018 وذلك بعد سابقة الاستسلام امام العراق. لا عيب في توفير حدّ ادنى من الرفاه للشعب الايراني، الذي يطمح الى العيش بأمان والاستفادة من ثروات بلاده مثله مثل بقية شعوب العالم المتحضر، بدل خوض مغامرات خارجية لا فائدة منها لا تخدم في نهاية المطاف سوى إسرائيل. تحوّلت اسرائيل بفضل ما قامت به ايران في سوريا الى اللاعب الأساسي والمحوري فيها في ضوء التحالف الذي يجمعها بكل من روسيا وإدارة ترامب. هذا واقع آخر لا بد لإيران ادراك ان لا مفرّ من الاعتراف به ايضا!