منتخبات كرة القدم ليست بروباغندا إعلامية

اللحظات التي يمنحها فريق كرة القدم للشعوب لا تأتي بشكل مستمر، وليس بمقدور رجال الدين ولا السياسيين الإتيان بمثلها، لذلك يتوحد صوت الصحافة وهي تجعل من وحدة الفريق نموذجا وطنيا.

عندما يتعلق الأمر بمفهوم الوطنية العميق المعبر عن الذات، فإن الصحافة لا تتردد برفع الصوت واضحا ومتفقا على نبرته، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال مغالاة أو بروباغندا إعلامية.

لذلك لا تترد الصحافة البريطانية على اعتبار المنتخب الإنكليزي اليوم تعبيرا حرا عن إنكلترا ككل متوحدة، وهم كمجموعة رياضية أكثر تمثيلا للشعب من السياسيين البريطانيين الذين شبهتهم صحيفة الغارديان بمجموعة فئران يتصارعون داخل كيس!

بينما مجموعة المدرب غاريث ساوثغيت، تمثل بالنسبة لملايين البريطانيين وليس الإنكليز وحدهم نموذجا للاقتداء به.

لا تحمل كرة القدم حلولا سياسية ولا اجتماعية، لكنها تبقى ممثلا وطنيا، مع ذلك يستمر العالم في رؤية فريق كرة القدم على أنه مرآة للبلاد. السياسيون والمعلقون يمحصون اللاعبين وعروضهم، محاولين فك شفرة آلية المجتمع الداخلية.

لم تتفق وسائل الإعلام البريطانية مثل اتفاقها اليوم على المنتخب الإنكليزي في المونديال برغم عدم صعوده إلى المباراة النهائية، كمجموعة موحدة بينما أعضاء الحكومة يمثلون بامتياز حالة الفرقة السياسية، ومثل هذا الأمر يجعل الناس يتجهون إلى الفريق ومدربهم كمعبر حقيقي عنهم وليس قادتهم السياسيين الغارقين في ورطة بريكست!

اللحظات التي يمنحها فريق كرة القدم للشعوب لا تأتي بشكل مستمر، وليس بمقدور رجال الدين ولا السياسيين الإتيان بمثلها، لذلك يتوحد صوت الصحافة وهي تجعل من وحدة الفريق نموذجا وطنيا.

ليس الأمر حاسما، لكنه صادق في التعبير عما يختلج في دواخل الشعوب، ولا تملك الصحافة حينها إلا هذا الخيار غير مبالية بالتسميات التاريخية عن الموضوعية وتجنب الدعاية، فالأمر برمته يمثل أعلى درجات التعبير عن الوطنية.

سبق وأن ارتكبت وسائل الإعلام أخطاء هائلة في اصطناع النموذج وجعله مثالا للناس، من دون أن يكون متفقا عليه كما الاتفاق القائم اليوم في بلجيكا، فالشعب مقسم وفق إثنية سياسية وقومية ولغوية، بينما المنتخب واحد ويقف أمام المقسم بوصفه واحدا.

في فرنسا أيضا، ثمة إثنية وعنصرية تهددان الكيان، بينما أعضاء الفريق مكون من خلفيات مشرقية وأفريقية وفرنسية، وينظر إليه الفرنسيون والرئيس إيمانويل ماكرون كنوع من الحل، ولا يملك الإعلام هناك غير هذا الخيار وعن قناعة تامة. والحال نفسه يتجسد في مجموعة المدرب غاريث ساوثغيت باعتباره كنزا وطنيا إلى درجة أن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قارنت نفسها به في محاولة لتوحيد حكومتها المتصدعة بشأن خطط البريكست. وقالت ماي عن المنتخب الإنكليزي “في بيئة أخرى، لدينا مجموعة من الأشخاص الذين قال الجميع إنهم أفراد لا يرغبون في اللعب معا كفريق واحد، ولكنهم اجتمعوا معا كفريق ويعملون أيضا بشكل جيد”.

تأملْ تصريح مدرب كرواتيا زلاتكو داليتش بعد فوز فريقه على إنكلترا بقوله “ما قدمه اللاعبون هو خيال، هو من أجل التاريخ”. ألا يعني ذلك أن كرة القدم دخلت في صناعة تاريخ الأوطان.

الإعلام البريطاني ينظر إلى المنتخب الإنكليزي باعتباره فتحا تقدميا يواجه به الشعبويين الذين يريدون إخراج بريطانيا من محيطها الأوروبي، الحل في هذا التنوع الإثني المتوحد في فريق كرة القدم الذي أصبح بالنسبة للصحافة البريطانية مخلصا من اليأس بفضل مدرب امتلك الذكاء العاطفي ما يجعله رمزا للرجل العصري المتطلع إلى الخارج، يثق في لاعبيه، يشجعهم على تحمل المسؤولية عن أفعالهم، يساعدهم على رواية قصصهم الخاصة أن تكون معروفة لأنفسهم ومن حولهم.

هكذا عبرت عنه صحيفة الغارديان كما لم تعبر عن مسؤول سياسي من قبل “فهو ليس مجرد فريق مستوحى من ساوثغيت، إنه إنكلترا ككل”.

يقول ساوثغيت “نحن فريق يتمتع بالتنوع وصغر سن عناصره بشكل يمثل إنكلترا الحديثة. لقد أمضينا بعض الوقت في إنكلترا غير قادرين على تحديد هويتنا الحديثة بالضبط. وبالطبع، سوف يتم تقييم أدائي بناء على نتائج كرة القدم أولا وقبل أي شيء أخر. لكن لدينا فرصة للتأثير على أشياء أخرى أكبر من ذلك”. مثل هذا التصريح يمتلك أهميته بالنسبة إلى وسائل الإعلام أكثر من أي كلام مشوش يطلقه وزير الخارجية البريطاني المستقيل بوريس جونسون.

الجمهور يثق في الإعلام عندما يتسق مع مشاعره الحقيقية، ويتخذ النموذج الصحيح للوطنية، وهكذا يصبح الفريق ممثلا نظيفا يسمو فوق كل الاعتبارات الحزبية والدينية الأنانية.

لذلك لا تتعرض الصحافة البريطانية والفرنسية والكرواتية هذه الأيام إلى أي نقد ساخر من قبل القراء حيال اندفاعها إزاء منتخبات بلادها بدعم غير منقطع. لأن النموذج الوطني متفق عليه.

علينا أن نمارس الحذر هنا من أي افتعال للغرور أو العنصرية! تأملْ أن منتخبات فرنسا وإنكلترا وبلجيكا تضم نسبة كبيرة من اللاعبين من أصول مهاجرة، ولد آباء اللاعبين خارج البلدان التي يمثلون منتخباتها الوطنية.

الأمر الذي يحذر منه بيارا باوار، مؤسس منظمة “فير” المعنية بمواجهة قضايا العنصرية في كرة القدم الأوروبية، من أن الفرق ذات الخلفيات المتنوعة لا يكون لها تأثير دائم على الناس.

ويقول “وجود تنوع في ثلاثة فرق من الأربعة فرق التي وصلت للدور قبل النهائي لكأس العالم هو لحظة رمزية إلى حد كبير، لكن التجارب السابقة أثبتت أن العامل الإيجابي يستمر لأشهر قليلة. ونرى منذ الآن لاعبا من أقلية عرقية في الفريق الإنكليزي، وهو رحيم ستيرلنغ، يواجه بمفرده انتقادات في كل مباراة”.

مهما يكن من أمر، فإن الدرس الوطني المتمثل بالمنتخبات في هذا المونديال يمنح المجتمعات العربية ووسائل الإعلام فيها درسا لإعادة التعبير عن وطنيتها من دون التعريف بنفسها عن طريق ما تكره!