من السوري ومن غير السوري

لبنان كان منطلقا للمشروع التوسّعي الايراني القائم على إيجاد ميليشيا مذهبية تعمل في موازاة مؤسسات الدولة. النموذج الذي يجري تعميمه الآن في المنطقة.

كعادته في مثل هذه الايّام من كلّ سنّة، عقد "بيت المستقبل"، الذي اسسه الرئيس اللبناني السابق امين الجميّل في ثمانينات القرن الماضي، مؤتمره السنوي بحضور شخصيات لبنانية وعربية ودولية تتعاطى الشأن العام. معظم هذه الشخصيات تمتلك خبرة في الموضوع الذي تتناوله، كما تمتلك ثقافة تسمح لها بالتحدث في الشأن الإقليمي والربط بين الاحداث الشرق أوسطية من جهة وما يدور في العالم من جهة اخرى.

ما جمع بين مؤتمر السنة الذي كان عنوانه "الامن في خضمّ الانحلال"، والمؤتمرات التي انعقدت في السنوات الماضية هو الجرأة في طرح قضايا تتناول المنطقة ككلّ. كان في الماضي تطرّق الى الوضع الإقليمي في ذكرى مرور مئة عام على اتفاق سايكس – بيكو. وكان هناك مؤتمر خصّص لخيار الدولتين على ارض فلسطين (دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية) وما اذا كان هذا الخيار لا يزال قائما في ظلّ الزحف الإسرائيلي في اتجاه ضمّ الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

كان المؤتمر الذي انعقد قبل ايّام قليلة "لقاء في خضم حال الانحلال التي طالت اكثر من صعيد وتأثيرات التفكك على امن المنطقة واستقرارها. وكأنّ عالمنا العربي لم يتغيّر من عام الى عام، من عقد الى عقد، بل ينحدر من سيّء الى أسوأ". هذا ما أشار اليه امين الجميّل في افتتاح المؤتمر متحدثا عن "نزاعات تحوّلت الي معارك عبثية وانتحارية دمّرت البشر والحجر". تحدث أيضا عن "نزاعات سياسية في الاقليم لم توفّر ايّ جانب من حياة المجتمع ولم تقتصر على النزاعات السياسية بين الانظمة، بل استهدفت بشكل أساس المجتمع والانسان في وجوده وحرياته وسلامته ورفاهه، فكانت نزاعات سياسية وإقليمية: عربية – عربية، عربية – إسرائيلية، عربيّة – إيرانية، إسرائيلية – إيرانية".

ارتدت هذه النزاعات طابعا دوليا، خصوصا في ظلّ الوجودين الروسي والأميركي في سوريا. هذا ما أشار اليه غير مشارك في الندوات المختلفة التي استضافتها سرايا بكفيا، وهي ندوات كان محورها ما العمل في مواجهة التهديدات التي تواجه الكيانات القائمة وحال الانحلال التي تعاني منها.

لعلّ الندوات الاهمّ في مؤتمر "الامن في خضم الانحلال" الذي شاركت في تنظيمه "مؤسسة كونراد اديناور" وجامعة تافت الاميركية وجامعة كيبيك الكندية وبلدية بكفيا- المحيدثة، تلك التي تناولت ابعاد التدخل الايراني في المنطقة. هل يمكن التعايش بين مؤسسات الدولة وميليشيات مذهبية تستخدمها ايران في عدد لا بأس به من دول المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر...

كان لبنان منطلقا للمشروع التوسّعي الايراني القائم على إيجاد ميليشيا مذهبية تعمل في موازاة مؤسسات الدولة. استفادت ايران من تجربة "حزب الله" في لبنان لتعممها في المنطقة. ما لم يشر اليه المشاركون في الندوات انّ "داعش" الذي تحرّك في سوريا والعراق ابتداء من العام 2014، لم يكن التنظيم الوحيد الذي تجاهل الحدود بين الدول. كان تدخل "حزب الله" في سوريا ابتداء من العام 2011 مباشرة بعد اندلاع الثورة الشعبية فيها، دليلا على تقديم الرابط المذهبي على كلّ ما عداه، بما في ذلك سيادة الدولة على ارضها.

هناك بكل بساطة اطار جديد للنزاعات الدائرة في كل دولة من دول الشرق الاوسط وفي المنطقة كلّها. هذا الاطار هو الثنائية بين الدولة والميليشيا. كان الناطق السابق باسم الحكومة العراقية علي الدبّاغ في غاية الوضوح لدى تشريحه الوضع في بلده في ضوء نتائج الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من أيار – مايو الجاري. شرح خطورة ما تشكله الميليشيات الموالية لإيران والمنضوية تحت تسمية "الحشد الشعبي". قال الدبّاغ في سياق مداخلة له تطرّق فيها الى التحدي الكبير الذي خلقه وجود مجموعات "الحشد الشعبي"، انّ "المشكلة الكبرى تكمن في كيفية صهر هذا الوجود المؤدلج الذي يعود في مرجعيته السياسية الى ايران(...) والممانعة الكبيرة في تذويبه في مؤسسات الدولة بعد قرار دمجه بالقوات الحكومية". لاحظ أيضا "انّ ما تبقّى من هذا الحشد تحول الى مجموعة ميليشيات دخلت التنافس السياسي واصبح لها وجود في صنع القرار". لم يخف الخوف من نشوء "ثنائية" تتألّف من "الحشد والدولة". خلص الى انّ "هذا هو التحدّي الأكبر الذي سيواجه الحكومة القادمة والتي ان نجحت سيكون العراق قد عبر ازمة الوجود والهوية الى الهوية الجامعة، واذا فشلت سترسّخ الانقسام القائم الذي صاحب الوضع السياسي الجديد".

الى جانب مداخلة الدبّاغ، كان راسل برمان الأستاذ في جامعة ستانفورد، وهي من اهمّ الجامعات في الولايات المتحدة، في غاية الدقّة عندما عرض نوعا جديدا من التحديات التي تلعب دورها في تغيير طبيعة الكيانات القائمة في الشرق الاوسط. أشار الى خطورة العبارة التي وردت في خطاب لبشّار الأسد في تموز – يوليو من العام 2015. قال بشّار وقتذاك: "سوريا ليست لمن يسكن فيها او يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها ويحميها". أعطى بذلك إشارة الانطلاق لعملية تطهير ذات طابع عرقي، او مذهبي. بالنسبة الى برمان "لم تعد من حاجة الى الذهاب الى ابعد للتحقق من مدى الانحلال الذي تشهده سوريا". ما لم يقله انّه صار هناك بلد لا يعترف فيه رئيس النظام بالمواطن حامل الجنسية. صار بشّار يقرر بنفسه من يجب ان يكون خارج سوريا ومن يستطيع البقاء فيها. من السوري ومن غير السوري.

نعم، هناك انتقال من السيّئ الى الأسوأ. يمكن اختصار الوضع في الشرق الاوسط بانّ اليوم الذي نعيش فيه افضل من يوم غد... ويوم غد سيكون افضل من اليوم الذي سيليه. هذه حال الاقليم منذ بدأت الميليشيات المذهبية التابعة لإيران تحل مكان مؤسسات الدولة. ما الذي سيحدث في السنة التي لا تزال تفصل عن المؤتمر المقبل لـ"بيت المستقبل"؟ ماذا بعد الانحلال؟ ماذا اذا اصرّت ايران على البقاء عسكريا في سوريا؟ ماذا اذا لم تفهم ايران معنى اعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق في شأن ملفّها النووي؟ ماذا اذا لم يقرأ المسؤولون الايرانيون بتمعّن النص الكامل للخطاب الذي القاه وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو والذي ضمّنه الشروط الـ 12 التي يتوجب على النظام الايراني تنفيذها في حال اراد العودة مجددا الى المجتمع الدولي؟

الجواب عن كل هذه التساؤلات في غاية البساطة. عندما ينعقد مؤتمر 2019 لـ"بيت المستقبل"، ستبدو كلمة انحلال اقرب الى مزحة، لا لشيء سوى لان ايران لا تستطيع ان تكون دولة طبيعية من دول المنطقة. علّة وجود نظامها قائمة على انّها دولة غير طبيعية. سيدافع النظام عن نفسه حتّى آخر لبناني وسوري وفلسطيني وعراقي ويمني... قبل ان يدرك ان الميليشيات المذهبية تستطيع تدمير المنطقة العربية والكيانات القائمة فيها لكنّها لا تستطيع ان تبني ايّ مؤسسة ناجحة في دولة ناجحة تضع نفسها في خدمة مواطنيها. وهذا ينطبق على ايران قبل غيرها.