يد الله في الفن التشكيلي

أن تتجسد يد الله في لوحة تشكيلية فهو ما لم نجده كثيرا في فن الرسم.
مشهد إنساني عميق يجسده الفنان الإيطالي جوتو في لوحته ببراعة درامية
بعض النقاد استنكروا اللوحة معتبرين انقسامها إلى شطرين ينزع عن الصورة وحدتها

"يد الله فوق أيديهم"، و"تبارك الله الذي بيده الملك" في القرآن الكريم، و"يد الله مع الجماعة" في الحديث الشريف. أما أن تتجسد يد الله في لوحة تشكيلية فهو ما لم نجده كثيرا في فن الرسم، ولكن الفنان الإيطالي جوتو (1266 – 1337) استطاع أن يجسد تلك اليد في لوحته "القديس فرنسيس يخرج عن طوع أبيه زهدا في ميراثه".
ويحكي د. ثروت عكاشة في "فنون عصر النهضة – الرينيسانس" قصة تلك اللوحة فيقول: "ذات مرة وفرنسيس في شبابه كان يمر بإحدى الكنائس المهملة فدخل وصلى، وإذ به يسمع صوتا من السماء يأمره بإصلاح الكنيسة، فنهض لتوه ليبيع سرا بعض السلع في مخزن أبيه، الأمر الذي أغضب والده فدفع به إلى المحاكمة".
ويصف أحد المؤرخين مشهد المحاكمة قائلا: "صحب الوالد المغيظ المملوء حنقا ابنه الشاب القديس فرنسيس إلى أسقف المدينة ليضطره إلى التخلي عما هو عليه من خِلَعِ أبيه، وما كان أسرع الفتى إلى أن ينزع عنه ثيابه ويطرحها بين يدي أبيه متجردا عن دنياه ليخلص إلى آخرته، وأخذ - وهو عار - يقول: قبل هذا كنت أناديك يا  أبي الذي على الأرض، ومن الآن فصاعدا سوف أتجه إلى ربي الذي في السموات الذي أعلق عليه الأمل والرجاء. وما أن سمع الأسقف هذا القول يجري على لسان هذا الفتى حتى اهتز له قلبه ونهض ليطوقه بذراعيه باكيا، ثم إذ هو يخلع عن نفسه عباءته ليطرحها على الفتى، ويأمر أتباعه من حوله بأن يحذو حذوه، ويزودا الفتى بما يستره".
هذا المشهد الإنساني العميق يجسده الفنان الإيطالي جوتو في لوحته ببراعة درامية يقول عنها د. ثروت عكاشة: "لو كان مثل هذا المشهد بين يدي فنان أقل مهارة من جوتو لجاء ميلودراميا واهيا أو مثيرا للتندر، غير أن إحساس جوتو بالصراع الدرامي وإدراكه للدلالة الجوهرية لم يكن يقل عن براعته في التصويرـ فالأب الغاضب المتلهف للالتجاء إلى العنف في سبيل تثبيط عزيمة ابنه كان في حاجة إلى من يكبح جماحه من بين الواقفين وراءه، ومع ذلك ظل ينطق بالقلق الذي يمزق قلب أب شديد التعلق بولده الضال (من وجهة نظره) عاجزا عن إدراك ما يدور بخلده. وبهذا كشف جوتو عما يعتمل من صراع داخلي في نفس الأب الذي وجد نفسه مرغما على التخلي عن الآمال التي عقدها على ولده كي يحقق في الحياة الدنيا ما يصبو إليه من نجاح مادي، فإذا شخصيته بوصفه البطل الند (أو البطل المضاد) في الدراما تتوازن مع شخصية الأسقف الذي يغدو من الناحية الرمزية الأب الجديد للقديس الشاب".
ويضيف عكاشة قوله: "يعزّز هذه الشخوص المتوازية في يسار اللوحة، البيت ذو الدرج وأهل المدينة المحتشدون، على حين يدعمها من الناحية الأخرى الراهبان وعمارة الكنيسة الرامزة إلى بيت الله، وتتجلى واضحة أمامهم صورة القديس إلى جوار الكنيسة، وهو يرفع يده ضارعا إلى الله بينما تجيب عليه يد الله الهابطة نحوه في قمة الصورة".
بطبيعة الحال هناك بعض النقاد استنكروا هذه اللوحة معتبرين انقسامها إلى شطرين ينزع عن الصورة وحدتها، ولكن في الوقت نفسه هناك من يعد هذا الانقسام براعة درامية لا ضريب لها، إذ ليس ثمة وسيلة للتعبير عن انقسام العالم إلى شطرين: عالم الجسد الساعي وراء المادة وعبادة المال، وعالم الروح الساعي نحو الغايات الروحية وعبادة الله.
أما عكاشة فيرى في مقابل الخطوط الرأسية للمجموعتين المنقسمتين أدنى الصورة، معادلها الأفقي في مثلث الخطوط الرأسية للمجموعتين في أسفل الصورة، بينما يسمق أحد الضلعين مرتفعا من خلال حركة يد القديس فرنسيس حتى يبلغ القمة عند يد الله الهاطلة من السماء.
ويقول: حتى إذا سلّمنا بأن الوسائل التي استخدمها الفنان بالغة البساطة، بل حتى لو كانت ساذجة بعض الشيء، فمن المشكوك فيه أنه كان في الإمكان التعبير عن الدلالة الدرامية الكامنة بمثل هذا الوضوح أو بمثل هذه الوسائل المرئية مباشرة.
ويوكد عكاشة على القيمة اللمسية عند جوتو باعتبارها أهم ميزة تنفرد بها إنجازاته، وتعد بحق إسهامه الشخصي في فن التصوير، وليس معنى ذلك أنه يفتقر إلى غيرها من المزايا، فقد كان الفنان رغم قصور الوسائل الفنية في عصره يلجأ - حين يتناول موضوعا دينيا - إلى إسباغ وقار المواكب الدينية والجلال الكهنوتي والمغزى الروحاني عليه.