في تونس، مهرجان دولي يعيد اكتشاف الصحراء

عرسٌ كبير ومظاهر احتفالية.. خيول وجمال وشعر ومسرح وثقافة.. لوحات ساحرة على أرض صحراوية خلابة.. حركية ثقافية وآلاف الزوّار الأجانب. هكذا عاش أهالي الجنوب التونسي بداية هذه العام على وقع مهرجان الصحراء الدولي, الذي ينتظم سنويا بمدينة دوز (نحو 500 كلم جنوب تونس العاصمة).
وتميّزت فقرات المهرجان بطرافتها النادرة وسط إقبال جماهيري كبير. فالعائلات التونسية والليبية والجزائرية جاءت لقضاء هذه الفترة بين لوحات هذا المهرجان, الذي يدور في قلب الصحراء التونسية, كما حضر فعاليات المهرجان عدد من السواح الأجانب, وخاصة من فرنسا وبلجيكيا, ممن توافدوا على المكان للاستمتاع باللوحات الراقصة, والاستعراضات الشعبية الكبيرة.
وقد جعلت هذه الدورة, وهي الدورة الرابعة والثلاثون لمهرجان الصحراء الدولي, المكان لوحة جميلة وجذابة, استقطبت الاهتمام الإعلامي الوطني والعالمي, وتبين أن هذه الدورة أعطت الانطباع بأنّها أكبر تظاهرة ثقافية في الصحراء, ليس في تونس فقط, وإنما في منطقة الصحراء الكبرى, التي تعد مدينة دوز بوابتها الكبرى.. فرق متعددة من صعيد مصر, وطوارق الجزائر وليبيا, ومجموعات كبيرة من الفرسان والمهاري باللباس التقليدي, منحوا المدينة طيلة خمسة أيام طقسا احتفاليا لا مثيل له, ترجمه عدد الجمهور في ساحة "حنيش", وهي أكبر ساحة استعراضية بالمدينة, والذي تجاوز عدده يوميا أكثر من 60 ألف مرتاد.
كان الافتتاح استعراضيا وكرنفاليا, ظهرت فيه الفرق الشعبية من داخل البلاد وخارجها في أبهى حللها, حيث تتسابق الفرق لإبراز الأزياء التقليدية, وخصائص كل جهة, بالإضافة إلى الفرق الموسيقية والنحاسية والفرق الرياضية المميزة للمهرجان, كالقافلة الصحراوية وفريق الصيد بالسلوقي, (وهو كلب يعتبر أشهر حيوان في الجنوب التونسي يستعمل للصيد), وفريق كرة "المعقاف", وهي لعبة كرة تستعمل فيها العصي, قريبة من لعبة القولف, كما حرص المهرجان على إبراز مظاهر العرس التقليدي في شكل تمثيلي ومسرحي.
تميزت فقرات المهرجان بالتنوع والثراء, فقد تمتع الجمهور بلوحات رائعة وشيقة لسباق المهاري على أنغام الناي الصحراوي, كما تسابق الفرسان بخيولهم إلى جانب مشاهد الصيد بـ"السلوقي", وشاهد رواد المهرجان عدّة مسرحيات, ركزت أساسا على مظاهر الحياة التقليدية بشكل استعراضي وهزلي.
من ناحية أخرى حفلت الساحات العامة بالجهة بإقامة معارك حقيقية بين فحول الجمال, ولذلك يطلق أهل الجهة على المهرجان اسم "عيد الجمل".
وانتظمت في المهرجان عروض أخرى لتجسيد مظاهر العرس التقليدي, بمشاركة جمع كبير من الفتيات بزيهن التقليدي, وباستعمال الهوادج, وهي في شكل خيام متنقلة على ظهور الجمال, هذا إضافة إلى لوحات راقصة يقوم بها عدد من الرجال متمرسون على الألعاب البلهوانية ببنادقهم وأزياءهم التقليدية, تتقدمهم الفرق الشعبية بطبولها ومزاميرها.
وقد سعت الهيئة المديرة للمهرجان برئاسة الدكتور فوزي بن حامد إلى منح المهرجان طابعا ثقافيا راقيا, فأحدثت ورشة الفنون التشكيلية, من خلال مشاركة رسامين عرب وأجانب, وخاصة عمر الغدامسي وإبراهيم العزابي والفنان ميشال ويلهايم من بلجيكيا. وتأثرت اللوحات المعروضة بمشاهد الصحراء وجمالها وبساطة أهلها.
وحرصت إدارة المهرجان كذلك على إقامة عكاظيات شعرية, يتم فيها التناظر بين الشعراء الشعبيين, حول موضوع يتم اختياره مسبقا, وتستقطب هذه الفقرة عددا كبيرا من أحباء الشعر الشعبي, الذي كان متأثرا بالأجواء التي تعيشها الأمة, وخاصة في فلسطين والعراق وأفغانستان, وعادة ما تتم هذه العكاظيات في الليل, حيث السكون والميل للسهر, وتختم هذه الأجواء الشعرية بسهرة الشعر العربي الفصيح, ثم توزع الجوائز على الشعراء المتميزين.
من جهة أخرى احتضنت دار الثقافة محمد المرزوقي في المدينة حفلات فنية أحياها كل من الفنان التونسي المعروف لطفي بوشناق والفنان الليبي محمد حسن والكوميدي إسماعيل العجيلي. واتفق الفنان رؤوف بن عمر والمنتج السينمائي صلاح الضاوي على استغلال المهرجان لإنجاز شريط وثائقي عن مدينة دوز, تساهم فيه إدارة المهرجان, ويتوقع أن يبث هذا الشريط في مجموعة من القنوات العربية والأجنبية. وفي إطار التوثيق للمهرجان أنجزت القناة الفرنسية ( ت ف 1) شريطا وثائقيا في إنتاج خاص سيبث قريبا.
هذا وأقيم معرض للأعشاب الطبية وفوائدها, تحت إشراف الأستاذ محمد بن عون, المهتم بالأعشاب واستعمالاتها الصيدلية, كما أقيم معرض توثيقي تضمّن جردا تاريخيا بالصور والنصوص, يوضح كافة المعالم الموجودة في المنطقة, على امتداد هذا القرن, وتطور أشكال الحياة في هذه الجهة, وتطور المعمار, وذلك بواسطة صور ومناظر للمدينة والمعالم من زوايا مختلفة. كما يقام سنويا على هامش المهرجان معرض اقتصادي وتجاري تؤمه فئات كبيرة من السياح والأهالي, وتشارك فيه على مدى شهر العديد من الشركات والمؤسسات المختلفة الاختصاصات ومن كافة أنحاء تونس, وفيه جناح خاص بالصناعات التقليدية.
تجدر الإشارة إلى أن مهرجان الصحراء الدولي يعتبر فرصة نادرة لأبناء الجنوب على مستوى الانتعاش الاقتصادي, خاصة بعد التراجع الكبير, الذي تشهده السياحة الصحراوية, والذي انتهى أخيرا بغلق عدة نزل سياحية, بالإضافة إلى الأزمة التي تعيشها الفلاحة هذه السنة, والمردود الضعيف لقطاع التمور وزيت الزيتون, وهي مواد أساسية في اقتصاد جهات الجنوب.
وقد عبر عدة مواطنين عن المصاعب الكبيرة التي أصبحت تعيشها الجهة, وانتشار البطالة بشكل ملفت, وعمد هؤلاء المواطنين لمطالبة وزارتي الثقافة والسياحة بالاعتناء أكثر بالمهرجان لتوسيعه, حتى يأتي بمردود أكبر, وذلك لأن لمهرجان الصحراء خصوصيته المميزة, الأمر الذي يدفع للتفكير في استغلاله حتى يتجاوز مجرد كونه حفلة في الصحراء, ليصبح مركزا للثقافة الصحراوية وفنونها في العالم. (ق.ب.)