شمعة ودمعة، والحلاج شاهد الحق

بغداد - من نرمين المفتي
مشهد قتل الحلاج كما تصوره رسام معاصر، وفي الصورة «ضريحه»

حي بغدادي قديم ، يحمل كل جدار فيه تاريخا يشهد بأنه كان، يوما، متكئا لمتصوف او لفقير. وربما كان زاوية لرجل علم. في هذا الحي، وبالذات في زقاق قصير وضيق، يكمن باب حديدي صغير اخضر اللون يقود الى مكان محدود بمساحته، لكنه رحب بمعناه وبمن يفترض انه مدفون فيه. انه المكان الذي يقال ان الحلاج مدفون فيه.
ادخل من الباب. تواجهني فسحة صغيرة. شمخت فيها نخلة عالية. وأصعد سلالم معدودة واعبر بوابة خشبية الى حيث الصندوق الخشبي القديم والمغطى بقماش اخضر. يرقد تحتها المتصوف الاشهر الحلاج.
اقول للنعيمي، متولي المكان، ان الحلاج بعد ان قتل تقطيعا، حرقت اجزاؤه المتقطعة ونثر رماده في نهر دجلة. اذن، من هو المدفون هنا؟
يقول: انه الحلاج.. حتى وان لم يتبق منه شيء ليدفن. ان مقامه كان هنا.. ومن هنا اصطحبه جند الوزير حامد بن العباس ليقتل.
تدخل نساء. تحمل احداهن طبقا من حناء معجون واخرى تحمل شمعة. جئن للزيارة وليقاد شمعة نذرا لتحقيق حلم ما. اسأل التي توقد الشمعة على الارض، قرب الصندوق الخشبي، ان كانت تعرف من يكون المدفون هنا؟ تقول بانه رجل صالح ومبارك و"لاجله يستجيب الله سبحانه لدعواتنا".
هل يكون الحلاج دفن هنا؟ ليته يحلج، الان، سري وما في قلبي ويخبرني. فهو كان حلاجا للاسرار. كما ينقل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، الجزء الثامن، ان الحلاج لقب كذلك لانه "كان يتكلم على اخبار الناس وما في قلوبهم. ويخبر عنها. فسُمي بذلك حلاج الأسرار." وان كانت هناك روايات اخرى للقيه الحلاج. الا ان ما نقله الخطيب البغدادي هو الاقرب الى نفسي. فهو اذ كشف اسرار الآخرين، انما كشف سر نفسه وتهيأ لقتله غير نادم او متراجع عما اعتبره حامد بن العباس كفرا وزندقة وهو لم يكن كذلك. انما كانت كلمة اخافته (الحق) الذي صرخ بها ولتحسسها الآخرون.
ونقرأ معا تاريخ الحلاج الاشهر بين متصوفة بغداد. فهو الحسين بن منصور المولود في 244هـ-858م. وارتحل من مدينة الى اخرى حتى استقر به المقام في بغداد، التي كانت في نهاية القرن الثالث الهجري، في الفترة العباسية المتأخرة، مقاما للعلماء من كل ملّة وفي كل حقل. وحائرة والمطامع تدق بابها والشمس العباسية في طريقها الى الغروب. في هكذا فترة عصيبة وجو حاد ومحير، كان لابد للحلاج ان يكون محيرا. فاذ ظنّ به البعض الكرامات لانه كان (يخرج فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويخبر الناس بما يصنعون في منازلهم). وصفه آخرون بانه كذاب وساحر ومصاحب للجن التي تأتيه بالفاكهة في غير اوانها.
وتطبع المرأة التي تحمل الحناء بصمة حناء في كفي وتسألني ان اطلب حاجتي، الان، فقد كانت قد نذرت ان تقف عند قدمي صاحب الصندوق لتوزع حناء فرحتها بتحقيق طلبها. وتقول:سمعت ان صاحب المرقد تعذب كثيرا بسبب العشق.
في كتاب متصوفة بغداد، اقرأ ان صوفية الحلاج اتسمت باستمرار اقصى العذاب للبرهان على الحرية. فافتداء الروح لا يقدمه الا الجسد المضحي. فكان قربانه الدائم هو جسده المرمي في حضرة الامتحان الدامي فكان يوازن بين اللذائذ وبين العناء، فيجد ان للعناء دينا كبيرا فكأنه اقتطف من ثمار الحياة الدنيا شوقه الى معشوقه.
ترى هل تعرف المرأة التي منحتني بصمة الحناء وذهبت تتوضأ، ان الحلاج توضأ لركعتي غشقه بالدم وهم يقتطعون اخزاء جسده، واحدا بعد اخر. وخشي ان يقابل الله بوجه شاحب، فرفع ذراعيه المقطوعتي اليدين ومسح وجهه بدمه وابتسم وكأن الجسد الذي يقطع وينزف ليس جسده. وبعيدا في قصره، كان بن العباس ينتظر انتهاء الحلاج او نهايته، بعيدا فهو يخاف حتى قطرات دمه، وخاب ظنه.. فالحلاج الذي امر بقتله لانه جهر برفضه للوزير وصراعاته واحتكاراته، فما كان منه الا ان يحكم عليه بالموت بتهمة الزندقة. ها هو تزوره النساء لطلب تحقيق امنية او حلم عشق. ويزوره الرجال للتبرك. وتزوره الافواج السياحية بعد ان كتبت عنه عشرات الكتب وبمختلف اللغات. و باصرار يبقى الحلاج شاهدا للحق من بغداد، وليشكره حامد بن العباس، اذ لولاه لما عرف التاريخ اسمه.
وقبل ان اغادره، او اغادر الصندوق الخشبي، اوقد شمعة قرب دمعة تركتها امرأة لم الحق لاقول لها بان العشق، أي عشق، يستحق دمعة ودمعات.