كفى حروبا أهلية مصطنعة حول التطبيع

بقلم: ماجد كيالي

لا يزال التفكير السياسي العربي رهين بديهياته وتهويماته الشعاراتية التي لا تتغير مهما تغيرت صروف الدهر، باعتبارها من أفعال الثبات على المواقف، برغم أنها تبقى في حيز الإنشاءات النظرية وانعكاسا للرغبات الذاتية البعيدة عن الواقع المتحرك والتأثير فيه.
ويمكن اعتبار السجال الدائر التطبيع مثالا على ذلك إذ جاءت الأفكار الأولية التي طرحها الأمير عبد الله، والمتعلقة بإيجاد حل لقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي يتأسس على مبدأ الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 في مقابل التطبيع الكامل مع الدولة العبرية، لتثير مجددا قضية التطبيع التي احتلت حيزا مهما من السجالات التي شهدتها الساحة العربية على خلفية عملية التسوية التي انطلقت من مؤتمر مدريد أواخر العام 1991.
واللافت للانتباه في هذا السجال مدى التسرع والسطحية والمبالغة في تناول قضية التطبيع في الخطاب العربي لدى العديد من المعنيين والمحللين سواء المعارضين أو الموافقين على هذه العملية.
فمثلا ثمة تناقض كبير بين اعتبار إسرائيل دولة صهيونية والاستنتاج بأنها تلهث وراء التطبيع مع محيطها على كافة الأصعدة!
وعلى الأغلب فإن المناهضين للتطبيع، خاصة، لا ينتبهون أو لا يعطون أهمية لهذا التناقض في موقفهم، خصوصا أنهم يقرّون بأن المجتمعات والدول التي تنبني على الأيدلوجية العنصرية هي مجتمعات مغلقة ترفض الاندماج مع الأخر، وتنظر إليه نظرة دونية، وتجعل من ذاتها قيمة عليا مطلقة، ما يجعلها تبني الأسوار العالية من حولها؛ هذا أولا.
ثانيا، إن الحركة الصهيونية، التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، جاءت أصلا في مواجهة التيارات الإصلاحية والتنويرية اليهودية التي دعت إلى دمج اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية، إذ قاومت الحركة الصهيونية الوليدة، آنذاك، هذا الاندماج لصالح إقامة دولة يهودية خالصة في فلسطين خاصة.
ثالثا، ثمة نزعة استعلائية عنصرية لدى الصهيونية، التي نشأت بوصفها حركة لليهود الغربيين (الاشكناز)، تشمل اليهود الشرقيين أيضا، وهي تتأسس على محو ثقافة هؤلاء اليهود وعاداتهم وتاريخهم الخاص، لاعتبارها إياهم في منزلة أدنى، كما أن تاريخ اليهود الشرقيين، لا يبرر قيام الحركة الصهيونية، فتاريخ هؤلاء، ليس لها علاقة بأساطير الاضطهاد والشتات وفي الواقع فإن إسرائيل لم تستطع، حتى الآن، أن تطبّع اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين ظلوا في أسفل السلم الاجتماعي والذين أنشأوا أحزابهم الطائفية (شاس ـ جيشر)، أما أسطورة "الصهر" التي تتفاخر بها إسرائيل فهي بنيت على هيمنة ثقافة اليهود الغربيين واحتكارهم للرواية التاريخية باعتبار تاريخهم الخاص تاريخا لليهودية.
رابعا، حتى الآن لم تنجح إسرائيل بتعريف من هو اليهودي إذ ثمة خلاف بين تياراتها الدينية الثلاث (الأرثوذكسية والإصلاحية والمحافظة) على هذا التعريف، فضلا عن التناقض الحاصل بين اعتبار إسرائيل دولة يهودية وعلمانية، في وقت واحد.
خامسا، إن إسرائيل تعتبر نفسها، أصلا، جزءا من الغرب، في تاريخها وقيمها وانتمائها الحضاري، لذلك فهي ترفض، من حيث المبدأ، الانتماء إلى الشرق الذي تعتبره متخلفا وذلك انسجاما مع منطلقاتها العنصرية الاستعلائية.
والمعنى من كل ذلك أن الدولة العبرية الصهيونية التي لم تستطع حتى الآن أن تطبع مع ذاتها وأن تحدد حدودها ليست معنية تماما بعملية التطبيع مع جوارها، والمعنى من ذلك أيضا، أنه قبل أن ندخل في معارك "دون كيشوتية" مع بعضنا البعض في الساحتين السياسية والإعلامية العربية، على معركة وهمية غير موجودة أصلا أو مصطنعة، من المهم جدا معرفة رأي الطرف الآخر، أي إسرائيل، فهل هي معنية بالتطبيع أصلا، وهل تعمل عليه باعتباره قضية حياة أو موت بالنسبة لها؟!
عموما فإن التعاطي مع قضية التطبيع بالمعنى الشائع والسهل لا يفيد شيئا ويخلط الكثير الأوراق كما يخلق العديد من التخبطات، وللأسف فثمة من يعتبر استضافة الشاعر سميح القاسم في عمان ومشاركة عزمي بشارة في ندوة ببيروت أو حتى في مخيم البقعة، في الأردن، عملا من أعمال التطبيع! كما ثمة من يعتبر بأن اللقاء مع اليهود المناهضين للصهيونية والمؤيدين للحق الفلسطيني من مثل عميرة هس وجدعون ليفي وايلان بابي ويوري أفنيري وأمنون كابليوك وسيمون بيتون (أخرجت فيلمين عن محمود درويش وعزمي بشارة)، مثلا، أيضا عملا من أعمال التطبيع! كما ينسحب ذات المفهوم على المشاركة في المنابر الدولية التي يشارك فيها إسرائيليون والتي تعتبر ساحة للصراع من أجل كسب الرأي العام الدولي لصالح الحقوق الفلسطينية العادلة.
الآن لا ينبغي أن يستنتج من هذا الكلام أن إسرائيل ضد التطبيع، تماما، مع الدول العربية وإنما ينبغي أن يستنتج منه ضرورة تدقيق مفاهيمنا وتعزيز معرفتنا بحدود "المعركة" وأدواتها. وفي الواقع فإن إسرائيل تريد التطبيع بمفهومها هي وبشكل انتقائي، أي ليس بالمفهوم المبسط والشائع عربيا سواء لدى المناهضين له أو الموافقين عليه، وهذا المفهوم يتأسس على:
أولا، الاعتراف الرسمي العربي بها، في إطار حدود آمنة، وإقامة علاقات طبيعية معها، من مثل: تبادل سفراء وإقامة علاقات تجارية والمشاركة في إقامة منظومة مشتركة من البني التحتية المتعلقة بالاتصالات والمواصلات والطاقة والمياه فضلا عن فتح الحدود لإتاحة التنقل بحيث يكون للإسرائيليين مجالا بريّا يخرجهم من عقدة الانحصار في المجالين الجوي والبحري.
ثانيا، الاعتراف بالرواية الصهيونية لتاريخ اليهود وللاستيطان في فلسطين، بما في ذلك الاعتراف بالرواية الإسرائيلية للصراع العربي ـ الإسرائيلي التي تتضمن حق اليهود في إقامة دولة لهم، وهذا هو مغزى المطالبة الإسرائيلية بتغيير المناهج التعليمية في البلدان العربية.
ثالثا، تجاوز العناصر الأساسية للقضية الفلسطينية لا سيما منها قضية اللاجئين الفلسطينيين.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن التطبيع الذي تنشده إسرائيل، على الأغلب، يتعلق بالتطبيع مع الأنظمة وليس مع شعوب المنطقة، انسجاما منها مع رؤيتها لذاتها (كدولة يهودية عنصرية) ولانتمائها الحضاري (الغربي)، وهذا ما يفسر حماس بعض القادة الإسرائيليين لمشروع النظام الشرق أوسطي، تحديدا، لأنه يقوم على أساسين اثنين: الحكومات وفئة رجال الأعمال، كما أنه يعتمد على إنشاء مؤسسات رسمية إقليمية وعلاقات تجارية وبني تحتية مشتركة.
وللمناسبة فإن المشروع الشرق أوسطي لم يحظ على إجماع في إسرائيل، ولا حتى في حزب العمل ذاته، فقد انقسمت إسرائيل إزاء هذا المشروع الذي رأت أن مضاره أكثر من منافعه إذ أن هذا المشروع من زاوية معارضيه الإسرائيليين يمكن أن يهدد هوية إسرائيل، مستقبلا، فضلا عن أن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل هو أعلى من المردود الذي ستحصل عليه بنتيجة العلاقات الاقتصادية مع بلدان هي أدنى منها بكثير في سلم التطور الاقتصادي.
وهكذا فإن إسرائيل تريد التطبيع ولكن بطريقتها وبالحدود التي ترسمها هي، لأن التطبيع بالمعنى الشائع للانفتاح والاندماج يتناقض مع عنصريتها ومع روحها الاستعلائية، كما أنه يهدد هويتها اليهودية وثقافتها، ليس فقط بحكم القوة العددية العربية وإنما بقوة الثقافة العربية، التي هي، أصلا، جزءا من ثقافة حوالي 50 بالمئة من الإسرائيليين (اليهود الشرقيين) الذين مازالوا يعرفون العربية ويهوون الأغاني والأفلام وحتى المأكولات العربية.
والمعنى من ذلك أنه لا حاجة لشن "حروب أهلية" عربية حول التطبيع، لأن الصهيونية التي رفضت انفتاح الغيتوات واندماج اليهود في مجتمعاتهم، في أوروبا، هي ذاتها التي سترفض وتقاوم اليوم التطبيع والانفتاح مع المحيط العربي لأنه يتناقض مع جوهرها ووظيفتها، ولأنها ترى فيه خطرا على الدولة اليهودية يؤدي إلى استيعابها وتذويبها،ربما، بدلا من إلغائها، والأهم من ذلك أن الأقلية العربية في إسرائيل ظلت عصية على الاسرلة وحافظت على هويتها وثقافتها العربية، برغم نصف قرن من محاولات الأسرلة الفاشلة كما أكدت التجربة. [email protected]