اربعون عاما على بدء سباق اقمار التجسس

يتيح وجود الفضاء الدولي خارج الحدود الإقليمية للدول والطابع الشمولي للأنظمة الفضائية مراقبة كل مناطق سطح الأرض والمحيطات والمجال الجوي والفضائي مراقبة مستمرة. ونعم قول العالم الروسي المعروف بوريس روشنباخ "إن ما حال دون وقوع الحرب العالمية الثالثة ليس الردع النووي، كما يظن الكثيرون، بقدر ما هو وسائل التجسس الفضائية. لقد تسنى لنا أن نتأكد من أن الأميركيين لا يحضرون شيئا ضدنا، وتأكد الأميركيون من أننا نحن لا نحضّر شيئا ضدهم. فمعرفة أحدنا الآخر حافظت على العالم".
وكانت الولايات المتحدة هي أول من استخدم لأغراض عسكرية التجسس بواسطة الرؤية وبطريقة اللاسلكي أيضا من الفضاء الكوني.
وفي عام 1960 حصل الأميركيون لأول مرة على صور لسطح الأرض من الفضاء من قمر التجسس الفوتوغرافي الذي حمل اسم 1Key hole ، والذي يعني "ثقب الباب" بالعربية، والذي أطلق من ضمن مشروع Corona المصادق عليه من قبل الرئيس أيزنهاور عام 1958.
والمشروع إياه لم يرفع عنه ستار السرية إلا بأمر من الرئيس كلينتون عام 1995. ولا يزال حتى الآن برنامج التجسس الفضائي الأميركي الوحيد المفصح عنه رسميا. أما باقي البرامج الأميركية للتجسس الفضائي فلا تزال مستورة عن أعين الرأي العام. وقد فرض حظر على مفهوم "قمر التجسس" نفسه في الولايات المتحدة. فالمصطلح المستعمل رسميا هو "الوسائل الفنية القومية".
وهنا لا بد من القول أن ستار السرية لم يكن يكتنف استخدام الأجهزة الفضائية استخداما عسكريا في الاتحاد السوفييتي بشكل يقل عما عند الأميركيين. ولكن الأمر مغاير الآن في روسيا إذ تظهر على صفحات الصحف بانتظام مواد عن تاريخ علم الفضاء العسكري الروسي وعن حالة المجموعة المدارية العسكرية الروسية وآفاق تطورها.
وتنشر أنباء رسمية عن إطلاق الجديد من الأقمار الصناعية ذات الأغراض العسكرية التي لا تزال بموجب التقليد تسمى أقمار "كوسموس".
وأول قمر تجسس فوتوغرافي سوفييتي من طراز "زينيت-2" (في الصحف سمي "كوسموس-4") أطلق لأربعين سنة خلت، في 26 ابريل/نيسان عام 1962. وقد أنشئ آنذاك على قاعدة سفينة "فوستوك". فبدلا من كرسي رجل الفضاء المخصص للهبوط على سطح الأرض كانت على المتن أجهزة تصوير خاصة.
لقد كان قمر "زينيت-2" قمر تجسس شاملا: فإلى جانب آلات التصوير الفوتوغرافي الثلاث البعيدة البؤرة كانت على متنه آلة تصوير فوتوغرافي طوبوغرافية وأجهزة تجسس لاسلكي.
وكان عرض شريط التصوير الشمسي لدى تحليق القمر على ارتفاع 200 كلم هو 180 كلم. وكانت آلات التصوير البعيدة البؤرة تؤمن قدرة على التبيان تساوي 10-12 مترا، وهو ما كان أمرا جيدا لذاك الزمان. وكان التحليق الذي يتم في سياقه تصوير سطح الأرض يستمر 15 يوما، ثم يعاد الفيلم مع كل الأجهزة إلى الأرض في جهاز هبوط.
وفي عام 1964 جعلت أقمار "زينيت-2" من ضمن أسلحة الجيش السوفييتي. فأطلق بين عامي 1962 و1970 واحد وثمانون قمرا من هذا النوع. وشهد عام 1967 أكبر عدد من عمليات الإطلاق إذ أطلق خلال العام 13 قمرا، وذلك عندما كان يجري على قدم وساق تصوير مناطق الشرق الأوسط في صدد الحرب العربية الإسرائيلية.
في ذلك الوقت بدأت الولايات المتحدة تستخدم في ميدان التجسس الفوتوغرافي الفضائي أقمارا ذات كبسولات هبوط. وهذا ما أتاح لها استرجاع الفيلم المصور إلى الأرض بسرعة أكبر دون انتظار أن يزاح كل الجهاز الفضائي عن مداره.
ثم ظهرت عند الأميركيين أقمار أكثر تطورا أمنت أجهزة التصوير فيها صورا بلغت القدرة على التبيان فيها (لا تزال هذه المعطيات سرية حتى الآن) 50 سنتيمترا. وكانت لها هي أيضا كبسولتان لإنزال الفيلم المصور إلى الأرض بسرعة. ولم يكن بد من الرد بشيء ما على الاختراعات الغربية هذه. فتم استعراض صيغتين للمضي في تطوير أقمار التجسس الفوتوغرافي السوفييتية. فإما تحديث الأجهزة الفضائية التي تحلق في الفضاء من خلال تحسين آلات التصوير فيها، وإما إنشاء قمر جديد من حيث المبدأ تكون له إمكانات أكبر بكثير من الموجودة. وفي نهاية المطاف تقرر السير في كلا السبيلين.
ففي عام 1970 تم التسلح بقمر التجسس الفوتوغرافي العريض الرؤية ذي القدرة غير الكبيرة على تبيين دقائق الأشياء على الأرض وقمر التجسس الفوتوغرافي التفصيلي. وكان كلاهما في الواقع صيغة محدَّثة لقمر "زينيت-2" فسميا بـ"زينيت-2 إم" و"زينيت - 4 إم".
ونصبت على كلا الجهازين محركات لتصحيح المسار، مما أتاح خفض ارتفاع التحليق إلى أدنى علو ممكن بهدف تأمين أكبر قدرة على التبيان في التصوير.
وفي عام 1973 بدأ تحليق تجريبي لقمر التجسس الفوتوغرافي الفضائي الجديد مبدئيا "ينتار-2 كا" المجهز بكبسولات يمكن إنقاذها والذي بات بين أسلحة القوات السوفييتية بعد مضي خمس سنوات.
وبلغت مدة تحليقه 30 يوما. وأطلق 30 من هذه الأجهزة إلى المدار. إلا أن الصاروخ الحامل فشل مرتين في عملية الإطلاق ما أدى إلى تحطم الأجهزة وهي على المدار بسبب الخلل الجدي الحاصل الذي لم يتح إعادة قسم الأجهزة الخاصة إلى الأرض.
وكانت آخر عملية إطلاق لجهاز "ينتار-2 كا" في العام 1983 إذ حل محله "ينتار-4 كا". وكان هذا الأخير عمليا نسخة طبق الأصل عن سلفه، غير أن أجهزة التصوير الخاصة كانت مغايرة. وأوصلت مدة التحليق بداية إلى 44 يوما، ثم إلى 50-60 وأخيرا إلى 70 يوما.
وفي أواخر الثمانينات كانت أجهزة "ينتار-4 كا" تطلق 6-7 مرات في السنة، مما أمّن عمليا وجودا دائما على المدار لأحد منها. ولم تفتأ تستغل بالتوازي معها أقمار التصوير الفوتوغرافي التفصيلي "زينيت-4 إم". ولم تستبدل أقمار "زينيت" إلا في نهاية الثمانينات. غير أن بعض النماذج المعدلة من هذه الأقمار واصل استخدامه حتى وقت قريب لأغراض مدنية مثل استقصاء موارد الأرض الطبيعية.
أما في ما يتعلق بأقمار "ينتار-4 كا" فكان أخر تحليق لها بين تشرين الثاني عام 1983 وكانون الثاني عام 1984. ثم حلت محله أجهزة تجسس فضائي أكثر كمالا.