'أرض رشيدة' .. الإقراء والنبل اللغوي

خالد جودة أحمد
لمحات من رحلتي

• الإقراء والنبل اللغوي:

القراءة عالم رحيب مُبهج، يعجبني في طياته مفهوم (الإقراء)، بمعني أن القارئ ينتخب من مُطالعاته ما يُرشحه أو يُقدمه لغيرهِ كي يُطالعه، لما ضمته تلك القراءة من مُتعة روحية وقيمة إنسانية، ورواية "أرض رشيدة" للكاتب عُمر أحمد سُليمان، تقع من وِجهة نظري في نِطاق الدعوة لمُطالعتها.

فإضافةً إلي لغتها الجَزلة التي ترقي بذائقة القارئ، وتمنح هذا المذاق الطَلي للغة المُعتنى بها لدرجة الرُقي إلي عبارات من الحكمة والخلاصات الحياتية الجيدة، نجدها واقعية، لكنها ليست واقعية (قاع القاع)، والعوالم الرديئة بدعوى حافز جمالي لإيضاح القُبح، فيصبح النص ذاته قبيحاً بحجة الواقعية، لكنها واقعية شارحة بنُبل وتفصيل عوالم التبدل والانتقال بين الريف والمدينة، واغتيال روح البراءة في عالم الاستهلاك وحافر ضعف الإمكانيات، والنَحر الطبقي، وتجريف الشخصية المصرية النبيلة، وتشويهها وإصابتها بالجذامُ الروحي، والضياع اليقيني.

فالحدوتة (المادة الخام للقصة) جَري مُعالجتها فَنياً مئات المرات (بدون مُبالغة، فهي ليست جديدة) عن شابين (رشيدة / ماجد) ارتبطا بعاطفة محبة فياضة، ولم يجدا لحياتهما معنى إلا بنسيج الارتباط الشرعي، فاعترض طريقهما مَعوقات من تبدلات مُجتمعية وأسرية، وضعف مادي، ونفي بساطة الحياة المصرية الأصيلة وتعقيدها.

لكن الجديد كان في اللغة، والرُقي في التناول، والمفاهيم القيمية العذبة، ونفي القتامة بإضافة جليلة تتمثل في إدراك منظومة الحياة، وأن للكون إلها، يجعل للسائر حثيثاً إلى الشاطئ العصا، يشق بها درب الظُلمة وجهامة الأمواج الضارية.

• اللحظة القدرية والإشادة الجمالية:

قد يظن البعض أن كاتب المقال والبحث لا يُعاني توتر الكتابة، وهذا ليس صحيحاً، فكل كتابة لها لحظة مناسبة تماماً تنساب فيها، وقد طالعت الرواية مُستمتعاً، واعتزمت الكتابة عنها في إطار مفهوم (الإقراء) والإشادة الجمالية، وظللت أؤجل في اغتنام تلك اللحظة القَدرية، وجعلتُ أحفزها بمطالعات في كتب أدبية ونقدية، حتى قررت المُواجهة، وليس الأمر مَديحاً بلا طائل، فالقارئ لنص أدبي ليس من مهماته نقض الكاتب وتقريعه، وليس مرآةً للمثالب، وليس رجلا بنكيا يقوم بتقويم عمله ليَعلم زائفها من جيدها، بل هو مُغامر يُفسر ويَستعذب ويُعلق ويُسهم في عطاء الكلمة للإنسانية في عباءة الإبداع.

• رمزية المبني الروائي:

المبني الروائي قائم على البساطة والتشويق، من خلالِ ذُروة درامية تتجه بعدها الأحداث للتنوير، مع كسرِ أُفق التوقع لدى القارئ، والشخصيات محدودة وقليلة وفاعلة في العالم الروائي، والسباحة في أرجائها يستغرق الرواية من خلال آلية الراوي العليم السابر لدقائق مُجتمع الرواية، والحوار آلية روائية لتبادل الرأي والمُناظرة الفكرية التي تُعد مَتناً موضوعياً مُهماً في ظِلالِ تلك اللغة الرصينة التي احتوت باقتدارٍ جمالي خواطر شخوص الرواية وأوجاعهم وتطلعاتهم الذبيحة.

وتتمتع الرواية بإشباع الحديث عن نَوازع الشخصيات الروائية، وتفسير سلوكها، وتبريره، وربطه بحركة المجتمع ككل، وتفسير ظواهر اجتماعية عاصفة، وتقديم العبرة الروائية:

(الواقع خير خبير .. لسنا وحدنا في العالم .. تحيطنا بلايا المجتمع، تمور بنا .. نحن شخص واحد مُتعدد تسري علينا مختلف الرازيا والخطوب) ص 55 الرواية.

والرواية تربوية بامتياز، من نوع سَرد التكوين "النمو"، الذي يتناول فترة الشباب الأولي، وتُعد مَقولة منتجة من (حديث العفة) في عالم عاصف بالأهواء والتلوث.

ونجد التناظر بين الخاص والعام، فالحالة الرومانسية الخاصة بين قطبي الرواية (رشيدة حسن محمود / ماجد صبري) مُنتج الشأن العام، لذلك مَثل المبني الروائي بشخوصه رمزية قُمتُ بتأويلها كما يلي:

فرشيدة رمز لمصر النابهة الجميلة، وماجد رمز لشبابها الثائر المطحون، وعنتر رمز لمن سَلبها حقها وقرصنها.

ومن بساطة تلك الرمزية، اختيار الأسماء المقصودة تماماً ليُماثل الخِصال النفسية والأخلاقية للشخصيات، بما يعني أن الروائي يَرمي للتوضيح والإقناع وعدم التعمية علي القارئ، والتأكيد المضموني للقصة، وانعكس ذلك علي خاتمة الرواية التي أري أنها طالت بدون مبرر فني، فالرواية (من وِجهة نظري التي تحتمل استبدالها) انتهت عملياً صفحة 211، وما جاء بعدها تحصيل حاصل، صحيح أني في ظِلال التغيرات المعاصرة في أمزجة المُطالعة في عصر الإنترنت أُوقن أن الروايات (فارس الميدان)، يجب أن تضم زاداً ثقافياً ومَعرفياً للشبيبة المُقبلة عليها، لكن شرطاً ألا تطغي على الناحية الفَنية أو تعمل على تقزيمها لصالح بحث ثقافي يمتلك شِغاف قلب الروائي.

والتحليل السابق، له شَواهد دالة عليه، نُشير إلى لمحات مُختصرة منها.

• الموقف الروائي من المُفارقة الاجتماعية:

يتجلي السياق الاجتماعي بقوة، روائياً، من خلال الزمن الطبيعي الخَطي في الرواية ببيان تبدلات القرية في الخمسينيات حتى مُستهل التسعينيات من القرن الفائت، ورياح التغيير والهجرة إلى الحواضر الميتة روحياً المُشبعة بسموم التلوث والتصحر الأخلاقي، وهذا موقف مبدئي صارم من الروائي استغرق الرواية مَتناً ونصاً، وظهر هذا من قيام المُفارقة بين (جنة حقيقية) لها مفردات (البساطة / الجمال / الحب)، (تغمرهم مشاهد بهيجة)، ومشهد (الأرض الطيبة)، و(بيت العائلة) صوبة القيم المصرية الأبريز، والحالة المُناقضة تماماً من التلوث (خيم الغبار والغيم المتخلف من عوادم السيارات) ص 11 الرواية، وسيادة نزعة الاستهلاك، واعتناق مبدأ المال (ذاعت لغة المال فاعتنقها) ص 12 الرواية، وحياة الترف الضيقة الزائفة التي تحجب الرؤية الواسعة النضيرة، والتي انعكست بأمراض جسدية لزينة أم رشيدة.

• مَحبة الطبيعة، ورواء الرومانسية:

والملمح الرومانسي العَذب رغم جهامة الواقع يُرطب قسوة الوقائع، يُماثلها مواقف نفسية من التفاعل مع الطبيعة المصرية الرحبة، فالضحكات ختام عبارة صفحة 17 من الرواية من رحلة التذكر (تذكر حقلهم الخلاب ... الضحكات)، وأنسنة الأرض وهي تستغيث بالنهر، وتجاذبات الحواضر الهَجينة بين قُربها من الريف وتشويهها بمفاهيم المدينة، فالأرض والنهر عُنصران فاعلان في الرواية، والمدينة (الفيوم) مكان مثالي لهذا التجاذب بين عَنت القاهرة، ونقاء الريف، والأثر النفسي والجسدي للفضاء الريفي يشع من فقرات الرواية، سواء بالدعم والتأييد أو بيانها بمفهوم المُخالفة بإيضاح النقيض لها.

• ضمير الرواية:

ويبدو المضمون جَلياً بإيضاح تبدل القيم وغلبة القيم المادية العصرية، وسيادة ثقافة الاستهلاك، وتَغول طبقات كاملة (ليست حاشية) من الأثرياء الطُفيليين علي المجتمع، مع لقطات بارعة لمشكلات الشباب، يكفي أن نُشير لانتقاء مُفردة (جَوعي) في حوار ورد صفحة 44 من الرواية: (الشباب يظلون جَوعَي لنصفهم الآخر حتي وقتٍ متأخر من عُمرهم، يلهثون وراء عُملة تتدحرج علي رصيف الشارع الفسيح بين الأقدام، البلاعة، لمياه الصرف الصحي، لمياه البحر تسبح، مصيرها الغرق في أعمق الأعماق)، وجاء وجه التوفيق في انتقاء مفردة (جوعي) كمثال لغوي من الرواية لتنقلنا لهرم الحاجات الشهير لماسلو ليطرح السؤال الخفي في ضمير الرواية (كيف يمكن لمَن لم يُحقق إشباعاً لحاجاته الأساسية أن يصل إلى فكرة التقدير والإشباع الذاتي؟)

• الطريق إلى شاطئ البحر:

والرواية ليست قاتمة، لكنها تميل للتحليل والتوضيح والبحث عن الأسباب وتشخيص الداء (الحاضر الضارب رأسه تحت التراب) ص 43 الرواية، ثم إقتراح الحلول، وقدمت فكرة جوهرية رائعة ترى أن جوهر الحلول بقيمة الإيمان، فاستبصار النجاة من فيالق الأمواج المجتمعية المميتة بضرب العصا يكون بالمُضي قُدماً إلى شاطئ البحر، والمَلمح الإيماني يظهر في قمة قوس الرواية بشرح أزمة الحدث والتلوين في الوصف، فماجد يرمق عنتر (رمقه ماجد بإحساسٍ مريع بالتهديد، وهو يركب سيارته الفخمة خارج باب الجامعة، ومشاعر سلبية عويصة تعبث بكيانه، مشاعر هادرة بالحنق، والبغض، والقهر، والظلم، والضياع، وقلة الحيلة، الصغر والهوان .. وما زاد أن تمتم قائلاً بجوامع مشاعره: حسبي الله ونعم الوكيل) ص 81 الرواية، وهذا مثال نجده لنواظر متعددة من الخشوع واللجوء إلى الله تعالي، وإقتناء النظرة الإسلامية المعتدلة، ليرسم السارد خارطة طريق النجاة، بداية من عطاءات اليقين، ونباهة الفكر (هذا قدرنا... ينبغي التحايل عليه واستيعابه، بدل التصادم معه) ص 53 الرواية، لإغتنام (السعادة المظفرة) = (أغتنم رضا أهلي ومأواك)، وانظر إلى جمال المفردة، حيث تأوي الزوجة لحنان زوجها.

• منحة في طيات محنة:

التغيير الاجتماعي يأتي، مثل الزلزال من تخلخات طبقية كاشفة عن معادن وجواهر الناس، فالمِحنة تثمر منحة لا يراها الرائي إلا بعد ذهاب الغبار، والرواية في صفحة 73 منها تقف بنا عند مفترق طرق بين وجهتي نظر تُقدم كل واحدة منها منطقها الحجاجي القوي، بلغةٍ جزلة راقية، في حوارٍ يسبقها بصفحات بين الأب وابنته رشيدة، ليختم (ستعلمين صدق أبيك بعد حين) ص 73 الرواية، والسؤال يُشير للقادم الروائي، والتشويق في حسم الإجابة، ليس بأحداث بوليسية أو غوامض مخفاة، بل من وحي حوار وحِجاج ضاري، رفيق أحياناً، يعلو درجات وينخفض درجات، ولكل وجهة نظر منطقها الأثير الدامغ، مَن سيفوز؟، وكيف يفوز، ومن خلال الإجابة نعرف شيئاً عن الانهيار الاجتماعي، وأين تذهب مصرنا.

• بطولة اللغة روائياً:

وتظل اللغة هنا مكانة مرموقة روائياً، بين نعومة وسيولة سردية، فعبارات ناجزة مثل (سيل العسل المنهمر) ص 34 الرواية، ووصف الحياء بالوردي (خفر الفتاة الريفية الوردي) ص 34 الرواية، والسعي (لجرعة حب لتحسين المزاج اليومي) ص 84 الرواية، ترقي لمعاني حكمية في تعبير ماجد، كمثال يُناظره عشرات العبارات الآخرى (الحياة المغروسة بالأشواك، لا نظفر برحيق الأزهار بقدر جهدنا وكدنا بحثاً عنها) ص 92 الرواية.

• خاتمة:

وأكتفي بهذا النذر اليسير من مغامرتي في "الأرض الرشيدة"، وإن كان عندي نُقول كثيرة من الرواية، تستحق التدوين، لكن أدعها للقارئ الجديد للرواية؛ كي يستجلي منها متعته الخاصة، كما جنيت مثلها.