نوستالجيا الرائحة والصوت في مجموعة 'شخص ثالث'

تستحق أن يكون القارئ شخصًا رابعًا

يقبع حسين عبدالرحيم في جب ذاكرته، لا ينتظر السيّارة بل ينتظر شخصا ثالثا يشاطره الذكرى، أو يستمع لها يمثل الحنين للماضي ويمس روحه، لا يضيق به ذاك الجب الذي يأبى الخروج منه.

فتسري روح الماضي في بواطنه وتتسلقه المشاعر، وينزلق به الحنين مرة أخرى، ولا ينكر أنه ينام متعمدًا، ويستعيد الحلم، ويجتر تفاصيله.

تضيق الأمكنة بالكاتب المسكون بقلق الحاضر مهما اتسعت، وتتسع كوة الماضي مهما كانت محملة بذكرى وبطّلات آمنة من عيون الغرباء؛

فيسافر إلى فريدة وصلاح الوزة، ويصعد السلم الزان ببطء حالما..حتى حتى عام ثمانية وأربعين.

تتساوى في عينيه جغرافية أمكنة الحاضر والماضي، وتتماهى الذاكرة المترعة بالحنين، وتيه الخيال في سميائيات الميناء، والبحر، والفنار، والجزيرة، والحارة، والرمال، وتلك الساق المبتورة.

اعتمد الكاتب على أشكال مختلفة من الأدوات التعبيرية والرمزية حيث أبرز ثقافة الأمكنة ونصيتها في أطر مزدوجة في ثنائية الحكي والسرد، فتمددت إحداثيات النص في رؤى متداخلة بين الحلم والواقع وبين الحاضر والماضي.

ويتضح ذلك في نص "شخص ثالث":

"استعدتُ الزمان والمكان والشخوص منتشياً. تحجرت الدموع. العمر الذي راح، والجيرة التي كانت هناك".

يصوغ الكاتب الماضي فيتجاذب الحاضر، ويحكي الماضي في تجاذبات للحاضر، من خلال موضوعية للواقع الفعلي بكامل تفاصيله، فكان الارتحال من الحاضر للماضي في عدة مواضع في النص الواحد دون أن يرهق القارئ باختلاف الزمان والمكان مثل نصي "صرخة الحرير" و"سيد غريب".

اهتم الكاتب بتقنية نصوصه، فرسم الزمان مهما بعُد بحرفيه عالية، ومهما تداخلت أحداثه وشخوصه كـ "عبدالرحيم الكبير" الذي شارك في حفر قناة السويس عشرة أعوام، ثم فرَّ من السخرة.

كما كان يتخطى أحيانا وصف الشخصيات الرئيسية، وكأنه يترك تخيلها للقارئ وفي أحيان أخرى كان يصفها من خلال موقف حواري أو سردي، ليصب كل ذلك في بوتقة الماضي والحاضر معا ممتزجين في نص متماسك.

تميزت المجموعة القصصية "رجل ثالث" بزخم وحضور للحواس التي شكلّت مشهدا بصريا كان عاملا مؤثرا في إحساس المتلقي التي كانت تنقله بدورها حيث الكاتب في زمنه ومكانه.

ازدحمت ذاكرة الكاتب بروائح الأشياء والأماكن والشخوص، كما كان تزامن الذكري بالرائحة، وكان للصوت دلالة شديدة الانغماس في الحالة الانفعالية المصاحبة للسرد، فيقول الكاتب في مقام تسيطر عليه "التوبوفيليا" التي تحدث عنها الشاعر الإنجليزي"ريستن هيو أودن".

"أتتبع صوت المنادي مجهول المصدر والمكان. نداءات قديمة وآنية

صوت الغناء يعلو من حولي .. صوت النوافير في الغاطس .. صوت البحر،

فتح التلفاز على أذان المغرب. صوت يأتيه من زمن سحيق، صافياً نقيا، يسرى في كيانه.

لحن أندلسي عبق. يأتيني من زمن بعيد، يشجيني. صوت ملائكي يتخلل حواسي، فتطفو ذكرياتي. يأتيني صوته المميز كرنات الفضة".

الصوت عند الكاتب يعود به للماضي أو يستدعي به الماضي

حتى وإن كان يتكرر خمس مرات في اليوم كصوت الآذان الذي يأتي في نص "الفنار" المتخم بالذكرى.

حقول الفواكه ورائحة المانجو، رائحة الشواء التي زامنها مع عبدالرحيم الكبير القابع في الزمن البعيد.

إن شعور الإنسان بالحنين للماضي رغم كونه موجعا يظل حوله علامة تعجب قد يذكرنا بتفسير المؤرخ الإنجليزي ليزلي ماكلوكلن، عندما سُئل عن اهتمام العالم بزواج الأميرة "كيت" والأمير"وليام" أنها نوستالجيا للملكية.

في النهاية فإن النصوص في مجموعة "شخص ثالث" التي تفوح منها رائحة وتسمع لها قرعا هي نصوص قد تنز وجعًا أو تهلل فرحًا لكنها في النهاية غادرت عقل الكاتب وأوراقه وذاكراته لتقبع في قلب القارئ. نصوص حيّة تستحق أن يكون القارئ شخصًا رابعًا.