تركيا والعرب: ألغام العثمانية الجديدة

لم يعدْ بالإمكان مواراةُ ذلك البوْن الذي يتّسع بين تركيا-أردوغان وعواصم عربية عديدة. ولم تعدْ البياناتُ الرسمية لجامعة الدول العربية، بصفتها الممثّل القانوني الدولي للنظام السياسي العربي الرسمي، تترددُ في الإفصاح عن اعتراض العرب على سياسات أنقرة حيال أزمات المنطقة، كما تدخلات تركيا المباشرة وغير المباشرة في شؤون الدول العربية.

ولا يمكن في معرِض تناول محددات العلاقات التركية العربية إسقاط الذاكرة التاريخية من وجدان العالم العربي.

قامت أنظمة ما بعد الاستقلالات العربية على ثوابت سلبية حيال الوجود العثماني في تاريخ المنطقة. تولت الأيديولوجيات القومية، العروبية والسورية وحتى تلك الأممية، التعامل مع تلك المرحلة بخطاب شاجب لممارسات فرضها الباب العالي على كافة دول المنطقة، على نحو يعيدُ للسعوديين والإماراتيين كما السوريين واللبنانيين والمصريين...إلخ، ذكريات سوداء مخصّبة بشخوص الولاة الذين مارسوا التنكيل خدمة لمصالح السلطنة.

وإذا ما راجت القومية العربية مقابل تيارات التتريك التي ظهرت في أواخر الدولة العثمانية، فذلك أن تياراتٍ سياسية وفكرية نفخت في هوية العروبة كمخرج للتخلص من الهوية العثمانية.

لم يكن رواج العروبة إلا صدىً للنفس التركي الذي تصاعد داخل الدولة العثمانية وقوّض "أمميتها" بصفتها امتداد لدولة الخلافة عند المسلمين، كل المسلمين. بيد أن تلك العروبة أتت أيضا متواكبة مع تصاعد حراك قوميات أخرى، شرق السلطنة وغربها، لم تعد ترى في الباب العالي سقفا تتظلل تحته الجماعات المتعايشة داخل دولة الخلافة.

وفيما غاب المشروع التركي في المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام دولة أتاتورك الحديثة، فإن تشكّل العالم على أساس الدولة-الأمة أسقط أي طموحات ما بعد عثمانية ممكن أن تنهل حقا سياسيا في العالم العربي. لم يعد النظام السياسي التركي الحديث، منذ بدايات القرن الماضي، كما الأحزاب التركية تنهل أي حجّة من تاريخ العثمانية العربي في مقاربة علاقات تركيا مع المنطقة.

وحتى حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، فإن المرجعية الإسلامية للحزب لم تفصح عما يمكن أن يثير شبهة العثمانية أو الحنين إليها. ويسجل لمنظّر الحزب أحمد داوود أوغلو، أنه أثار مسألة علاقة تركيا بالمنطقة العربية بصفتها من قواعد بقاء تركيا وديمومتها، على نحو مختلف عن المنطق الأتاتوركي الذي كان يرى في العلاقة مع الغرب والدفع باتجاه ثقافته وقيّمه ضماناً لأمن تركيا ودوام استقرارها.

بيد أن داوود أوغلو، صاحب نظرية "صفر مشاكل" الشهيرة، كان يرى أن ضرورات "عودة" تركيا إلى أحضان المنطقة تمر من خلال الحوار والاستقرار والتبادل الاقتصادي، ولم يرشح من أدبياته ما يمكن أن يستبطن ما ظهر لاحقا من تلقيح للمنطقة بعقائد عثمانية أخفاها حزب العدالة والتنمية المتبرئ بارتباك من عباءة زعيم الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان.

لم يتمّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما عوّل عليه طويلاً بعد انفجار "الربيع" العربي من عودة للعثمانية وسلطانها إلى المنطقة. بدا أن عواصم كبرى في هذا العالم كانت شريكة لأردوغان في أحلامه، وأن نظرية تمكين جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي من أجل امتصاص الحركات الجهادية، كانت نظرية تلقى صدىً لدى أروقة السياسة والفكر في واشنطن كما باريس ولندن وبرلين.

بيد أن المنطقة أرادت غير ذلك. سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر، ما أدى إلى سقوطه في تونس وتراجعه في ليبيا وارتباكه في اليمن. وأظهرت بلدان المنطقة، شعوبا وأنظمة سياسية، مقاومة شديدة لرياح التأسلم التي حملها نسيم "ربيع" كان يعدُ بالتغيير وفق منهج أوروبا الشرقية وربيعها. بدا أن مجتمعَ تونس، البورقيبي التأسيس، كان أصلبَ في جذوره من ظواهر طارئة. وبدا أن الانتفاضة المجتمعية الحقيقية المصرية، التي أيدها الجيش ودعم مفاعيلها، وربما بإفراط، أعادت تصويب العقارب خارج التوقيت العثماني لسلطان أنقرة الطموح.

مشكلة أردوغان وصحبه أنهم يتعاملون مع العالم أجمع وفق شروط هذا العالم وأمره الواقع، لكنهم يتعاملون مع العالم العربي بصفته حديقة تركية خلفية تجوز عليها قيم وفرمانات ما يرسمه الحزب والزعيم في أنقرة.

تقرر أنقرة معاداة القاهرة غير مكترثة لما لمصر من ثقل في راهن وتاريخ المنطقة، ولما لحوالي 100 مليون مصري من كفاءة لتحديد شكل نظام بلادهم السياسي ومستقبلها في العالم. وتقرر تركيا إلقاء دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان على القاهرة وعواصم عربية أخرى، فيما تنهال تقارير صادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية، ناهيك عن مواقف تطلقها عواصم عديدة في هذا العالم، لاسيما منذ أحداث "غيزي بارك" ومحاولة الانقلاب بعد ذلك، في انتقاد ديمقراطية تركيا واحترامها لحقوق التعبير والإنسان لديها.

بالمقابل ينهل الجدل الخليجي التركي الراهن توتره من مياه آسنة تستند على موقف أنقرة من مسائل متعددة تضخّمت وانفجرت أعراضها في ما أظهرته أنقرة من موقف إزاء مقاطعة مصر والسعودية والبحرين والإمارات لقطر.

وبغض النظر عن النقاش الذي دار ويدور حول حيثيات خلاف الرباعية العربية مع قطر ومنطلقاته، وهي ليست موضوعنا هنا، فإنه كان حرياً بأنقرة، حرصاً منها على موقعها كدولة إقليمية كبرى وتوخيا لعلاقات متوازنة مع كافة دول المنطقة، أن تتخذ موقفا محايداً، كتلك التي اتّخذتها كافة دول العالم التي تعتبر الخلاف بيتيّ خليجيّ وأن من الحكمة صوْن مصالحها مع كافة دول الخلاف.

لكن الأدهى في موقف تركيا أنها أول، وربما آخر، من ابتكر للخلاف مع قطر بعداً عسكرياً لم تلحظه أدبيات المقاطعين وإجراءاتهم، وحتى تهديداتهم.

تولت أنقرة، على نحو سريالي غريب، انتهاز مناسبة انفجار الخلاف لتفعيل اتفاق عسكري تركي قطري يعود إلى عام 2014 يقضي بإنشاء قاعدة الريان العسكرية، فاستعجلت إرسال قوات تركية على نحو لا يمكن فهمه إلا إجراءً عدائيا لا مبرر تركيا له.

والأغرب من ذلك أن قاعدة العديد الأميركية في قطر تستضيف قوى عسكرية قادرة على تأمين دفاع دولي عن قطر، وأن إرسال قوات تركية لا يقدم ولا يؤخر شيئا في مشهد خلاف الرباعية مع قطر. وعلى ذلك، فإن دول مجلس التعاون العربي لم تفهم من العسكريتاريا التركية إلا سلوكاً يذكّر بعثمانية غابرة لا تريدها كافة دول المنطقة.

تتولى تركيا الدفاع عن مصالحها بماكيافيلية مثالية. فعلاقاتها مع دول المنطقة مبنية على مصالح ومنافع ترمي إلى الذود عن مصالح أنقرة ونظامها السياسي. فرضت المصالح تحالفا بين أردوغان وبشار الأسد وإلغاءً للحدود بين تركيا وسوريا في مرحلة أولى. ونفس المصالح هي ما فرض قطيعة تركيا مع نظام دمشق، ونفس المصالح هي التي قد تقود إلى إعادة تأهيل للعلاقات المتصدعة بين دمشق وأنقرة درءا لخطر الوجود الكردي على الحدود الشمالية السورية المحاذية لتركيا.

والحال أن من حق تركيا أن تدافع عن مصالحها بالبراغماتية التي تريدها وأن تبدّل مواقفها من أجل ذلك بالرشاقة التي تستطيع امتلاكها. لكن بالمقابل من حق عواصم المنطقة أن تدافع عن نفسها وترد أذى التقلبات التركية البهلوانية بانتظار أن يستقر هذا التقلب على استفاقة تقّر بها تركيا بأن العالم العربي غادر عثمانية أردوغان منذ أكثر من قرن، وأن لبلدان المنطقة أنظمة وشعوباً وأسسا وخصوصياتٍ وقواعدَ وجب احترامها ووجب التعامل معها بصفتها أمرا واقعا من حق أهل المنطقة وحدهم مناقشتها وتحديد كيفية قراءتها.