لا أحد يسمع النداء في بلاد الجثث

كما كانت الحرب الأميركية على تنظيم القاعدة في الفلوجة قد دمرت المدينة وحولتها إلى مقبرة فإن الحرب العالمية على داعش في الموصل قد حولت ثاني مدن العراق إلى ركام وأنقاض.

المدينة التي فقدت مأذنتها التاريخية الحدباء هي الأخرى صارت مقبرة حية. ذلك لأن جثث القتلى لا تزال تحت الأنقاض. الحكومة التي انتصرت على الموصل بجهد أميركي لا تظهر أدنى اكتراث بمصير أكثر من ألفي وخمسمئة جثة لا تزال تحت الأنقاض.

وإذا ما أردنا قول الحقيقة فإن الموصل من وجهة نظر حكومة بغداد المنتصرة هي مدينة عدوة. لذلك فهي لا تنظر إلى تحرير المدينة من قبضة تنظيم داعش باعتباره مناسبة وطنية لاستعادة مدينة عراقية بقدر ما تنظر إلى ذلك الأمر بقدر لافت من التشفي الطائفي.

لسان حال الحكومة يقول "لقد هُزم السنة في تلك المدينة وليدفعوا ثمن هزيمتهم". لذلك لم تلتفت الحكومة إلى ما يشكله بقاء جثث تحت لأنقاض من أخطار بيئية. ربما تنتظر تلك الحكومة ظهور وباء يفتك بمَن تبقى من سكان الموصل أحياء.

الحكومة التي لا تملك فلسا واحدا تنفقه من أجل إعادة إعمار المدينة المدمرة ليست لديها أية رغبة في أن تقوم منظمات وجمعيات عالمية بذلك.

غير مرة سعت بغداد إلى الحصول على قروض أو استجداء مساعدة بذريعة إعادة الاعمار وهو ما انتبهت إليه الدول والمؤسسات المالية العالمية فكانت النتيجة أن قوبلت تلك المساعي بالرفض المهين.

غير انه ليس صحيحا ما تزعمه الحكومة من أن نقص المال هو الذي يضطرها إلى عدم المبادرة إلى النظر بعينين مفتوحتين إلى الكارثة التي ضربت الموصل. وهي كارثة لا تزال فصولها مستمرة. بل أن المستقبل يخفي فصولا هي أسوأ بكثير من الفصول السابقة.

إن الأحياء من البشر هناك مهددون بالفناء في أية لحظة يخرج وحش الوباء رأسه فيها من بين الأنقاض حيث لا تزال جثث الموتى تقيم هناك.

يتنافى ما يجري في الموصل مع القانون في أسوأ حالاته كما أنه يعد نقضا سريعا للشرائع السماوية التي حضت على احترام الموتى.

بالنسبة لبغداد فإنها لا تجد مسوغا لاستثناء الموتى من عقاب جماعي تجده ضروريا من أجل كسر شوكة المدينة التي تعرضت لواحدة من أكثر المؤامرات دناءة في التاريخ، حين تم تسليمها إلى تنظيم داعش الإرهابي بيسر ومن غير قتال.

لقد فضلت الحكومة العراقية عام 2014 أن يُلحق بالجيش العراقي عار الفرار من ساحة المعركة وخيانة الشرف العسكري على أن يقوم ذلك الجيش بواجبه في الدفاع عن الموصل باعتبارها مدينة عراقية وليست مدينة سنية كما ينظر إليها طائفيو الحكم.

جثث الموتى في الموصل بالنسبة لأولئك الطائفيين هي الصيد الثمين الذي تم الاحتفاظ به من أجل إرسال الأحياء إلى موت جماعي سيأتي لا محالة عاجلا أم آجلا. وهو موت يراه البعض منهم حلا لعقدة ذنب يود الكثيرون التخلص منها من خلال محو آثار الجريمة التي تقف وراءها من الواقع. أي من خلال إبادة من تبقى من شهود الخيانة التي قادت الى المجزرة.

اليوم يتسابق الانتهازيون من أبناء الموصل من أجل الوصول إلى مجلس النواب لكي يمثلوا دور شهود الزور فيما تصرخ الجثث من تحت أنقاض بيوتها مطالبة بالحق في أن تُنصف في موتها بعد أن حُرم أصحابها من ذلك الحق في حياتهم.

جثث نساء وأطفال وشيوخ الموصل تنتظر أن يصحو العراقيون من موتهم لكي ينحازوا إلى ما تبقى لديهم من كرامة وإيمان وإنسانية ومروءة.

أما إذا تعلق الأمر بسياسيي بغداد فلا أمل في أن يصل إليهم ذلك النداء، لا لشيء إلا لأن الجثث المنسية تحت ركام الموصل أكثر حياة من الجثث التي تدير المنطقة الخضراء.