المصحف وقراءاته.. طبعة غير مسبوقة للقرآن

ما كان مسموحا في تعدد القراءات بات محرماً

مَن يتعامل مع القراءات المختلفة يدرك مدى خطورة القراءة الحرفية البحتة\" للقرآن: توجد قراءات مختلفة تقريبا لجميع آيات سور القرآن المائة وأربع عشر. وتتطابق في جميع الروايات فقط سور القرآن القصيرة وسهلة الحفظ التي تعود إلى الفترة النبوية المكية، أي نحو خمسة في المائة فقط من النص الكامل. وهذه هي النتيجة الجوهرية لأبحاث الأستاذ عبد المجيد الشرفي التي أجراها على مدى أكثر من عشرة أعوام مع فريق مكوّن من عشرة باحثين متطوعين: لا يوجد مصحف واضح مقدّس، بل توجد شبكة معقّدة من النصوص تحمل آثارا من تاريخها الخاص ومن بيئة مؤلفيها السياسية والاجتماعية والدينية.

\"يمكن أن تكون الاختلافات في القراءات شكليّة بحتة أو يمكن أن تكون مهمّة من حيث المضمون\" مثلما يقول بحذر الباحث عبد المجيد الشرفي، البالغ من العمر ستة وسبعين عاما، ثمّ يصبح دبلوماسيا ويقول : \"إنّ من يتعامل مع القراءات المختلفة يدرك مدى خطورة القراءة الحرفية البحتة\"، ويضيف أن الآيات القرآنية لا يمكن تطبيقها على جميع الحالات في عصرنا الحاضر، ذلك لأن \" نزولها على النبي قد تمّ في ظروف تاريخية معينة\"، مثلما يقول الشرفي.

حقيقة محرّمة

عبد المجيد الشرفي مسلم متديّن. لم ينتم قطّ إلى أي حزب وقد رفض دعم الطاغية زين العابدين بن علي في حملته الانتخابية، واضطر نتيجة ذلك إلى إخلاء منصبه في وقت مبكر كعميد في الجامعة التونسية، وبعد ذلك خضعت أعماله للرقابة وتمّ منعها من النشر.

إلاّ أنه لم يستسلم، بل انسحب من الحياة العامّة وأسّس مجموعة بحثية من أجل مشروع تحقيق المصحف، لم تكن هناك رواتب للباحثين وتولّت مؤسسة كونراد أديناور تمويل الرحلات الأرشيفية إلى اليمن وبرلين. وأخيرا وافق راع لبناني على تمويل الطباعة متعدّدة الألوان في الرباط.

يعي عبد المجيد الشرفي، مثل أي محقّق أكاديمي أنّ \"عملنا هذا ليس موجّها إلى جمهور كبير، لقد تلقينا من زملائنا الباحثين ردودا إيجابية\". لكن، على سبيل المثال، في حين تثير الصيغ المختلفة من نصوص كافكا في الدرجة الأولى اهتمام الباحثين المختصين بكافكا فإن هذا المشروع مختلف تمام الاختلاف، وذلك لأنّ اختلاف القراءات في القرآن يمكن أن يصبح أمرا مهما بالنسبة لمليار وثمانمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم، ويدرك الأستاذ عبد المجيد الشرفي ذلك.

لنأخذ مثالا على ذلك: ففي الآية السادسة من سورة الصف في القرآن المتّفق عليه يُبشّر عيسى بن مريم برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وبالنسبة إلى المسلمين فإنّ هذا الرسول هو محمد، خاتم أنبياء الله. ولكن توجد في طبعة الشرفي قراءة مختلفة لا تحتوي على أي اسم. تم حظر طبعة \"المصحف وقراءاته\" في السعودية فور صدورها أمّا في تونس فقد نفدت جميع نسخها.

ثمّ يأخذ الحديث مع الأستاذ الشرفي منعطفا سياسيا فيحذّر: \"يجب علينا أن نتوقف عن أخذ القرآن حرفيا\" لأن عواقب مثل هذه القراءة الجديدة وخيمة جدا:\" توجد في القرآن رسالة نبوية تقويضية، وكذلك يوجد في الإسلام دين ذو طابع مؤسسي، يخلق العقائد والطقوس والمذاهب.\" وهذا يعني اليوم بالنسبة إلى المسلم المتدين:\" الرجوع إلى المصادر: لا مطلق سوى الله\".

للقراءة النقدية للقرآن تقليد عريق في تونس: كانت جامعة الزيتونة المؤسّسة في عام سبعمائة وسبعة وثلاثين ميلاديا في قلب مدينة تونس القديمة حتّى إغلاقها من قبل مؤسس الدولة الحبيب بورقيبة مركزا عالميا للإسلام المعتدل وحصنا منيعا. لم يعد اليوم وجود لمثل هذا الصرح المخصص للنقاش العلمي في العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه تونس هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تتمّ فيها منذ عقود من الزمن مناقشة القرآن في كلّيات الآداب والعلوم الإنسانية وليس كما في أماكن أخرى حيث تحتكر الدراسات الإسلامية من قبل المؤسسات الدينية العقائدية. هذا النهج التونسي لا يلقى لدى الجيران العرب ترحيبا واستحسانا، ففي الآونة الأخيرة هدّد حراس العقيدة في الجامع الأزهر بإخراج تونس من قائمة الدول الإسلامية في حال استمرت في برنامج التحديث الديمقراطي \"على حساب الإسلام\"، وما إلى ذلك.

وكذلك يبدو الحديث في سورة آل عمران (الآية 110) حول \" الأمّة\" (خير أمّة) أي الجماعة الصحيحة التي اصطفاها الله، مثلما يفهمها المسلمون. ولكن ترد في قراءة أخرى كلمة \"أئمّة\"، أي أفضل الدعاة والأئمّة إلى يراهم محمد في أتباعه. وفي هذا الصدد يقول جان فونتان:\" الإسلاميون سوف يمارسون ضغوطا\".

هكذا أيضا ترى المستشرقة البرلينية الأستاذة أنغيليكا نويفرت، فهي ترى أنّ هذه الطبعة الجديدة ليست مجرّد إنجاز أكاديمي رائد فحسب بل تعتبرها كذلك اختبارا حقيقيا للشجاعة، وتقول:\"السلفيون لا يريدون معرفة أنّ للقرآن تاريخا أرضيا\"، ثمّ تضيف أنّ آيات العنف على سبيل المثال لم تأت من السماء، بل لها سياق تاريخي محدّد ومن يعرفه فقط هو الذي يفهم القرآن فهما صحيحا. تقول نويفرت:\" القرآن ليس كتابا، بل حدث، يحمل آثار النقاشات التي كان يخوضها محمد مع جماعته. هذه الطبعة التونسية تجعل القرآن مقروءا بصورة صحيحة: كـ\"مجال لأصداء زمنه\".

إنّ ما أنجزه عبد المجيد الشرفي ليس أكثر من إعادة تعريف مكانة القرآن في الإسلام، ووفقا لتفسير القرآن تفسيرا تاريخيا نقديا فإنّ القرآن في الوقت نفسه هو نتيجة وحي إلهي ومنقول بلغة بشرية، تأثر بشخصية النبي وظروفه المعيشية وبثقافته ومجتمعه، أما الذي ما يزال اليوم ينكر ذلك فهو يفصل الدين عن الحياة، بحسب تعبير الأستاذ عبد المجيد الشرفي. لا يوجد، وفقا للأستاذ عبد المجيد الشرفي، مستقبل للإسلام إلاّ إذا تمّت إعادة قراءة القرآن بالتوافق مع قيم الحداثة واحترام حقوق الإنسان العالمية.

أنيته شتاينيش

ترجمة: رائد الباش

ملخص منشور في قنطرة الألمانية