عاد الشيوخ إلى صباهم وإبيضّ شعر الصبايا في انتخابات لبنان
انتابنا شعور، ونحن نفرغ من كتابة الفصل الأخير من الإنتخابات البرلمانية في لبنان، وكأنّه لا لزوم لإدراج "خاتمة" مباركات مريحة ومطمئنة وتغييرية تشي بمستقبل الديمقراطية، لأن الحكمة تقول أنّ لا جدوى كبرى منها، ولأنّ النسبية كذاك إن لم يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة، لأسباب متعدّدة قد لا تلغي ضرورتها:
أولاً، لأنّ الفصل المذكور، وهو يسلّط الضوء على تحوّلات الأحزاب وتدفّق المرشحين وتحالفاتهم وفردانياتهم المخيفة وإنفصال السلطات الثلاث وترشّح رموزها وزراء ونواباً وتعاضدهم غير المنطقي إلى غياب البرامج الواعية لحاجات لبنان إلى ضخّ الأموال والتدخلات الإقليمية والخارجية إلى الإنجذاب السخيف والمفرط بالظهور الاعلامي وقصور الكتلة الإدارية عن فهم القانون النسبي بلعبة التفضيلي وفتح أبواب التزوير والغش في أدارت الإنتخابات وتحقير نزاهتها إلى تجاوز القوانين الخاصة بهيئة مراقبة الإنتخابات التي أربكت وتاهت في الكثير من الدوائر ونسف الجميع فترة الصمت الإنتخابي المحترمة للرأي العام في البلدان الديمقراطية، يلفّ هذا كلّه الانهيارات المذهبية والتخاطبية المخيفة التي أتاحها عصرالعولمة وأدواتها السائبة، قد طغى على المشهد الحضاري المنتظر بشكل عام، وربّما تجاوزه، وهو يصلح لأن يكون مشروع "خاتمة" مبدئيّة حزينة لكنها مفتوحة على الكثير من الإلغام والإسقاطات وخيبات الأمل في المستقبل والدعوة الوطنية إلى النسبية الشاملة والحزبية الشاملة لكلّ الطوائف.
نقلنا هذا الفصل التجريبي من زمن خاص بلبنان إلى زمن مكشوف وواسع ومنتشر أعمّ وأهذب شكلاً، مختلف عنه ومغاير له كلياً. يضعنا أمام تفكيك الفلسفة الديمقراطية ومفاهيم العمل الحزبي وهواجس نسفها أو تشوهاتها بعد انتقالها إلى هاجوج الشاشات وماجوج الساحات بما أشعل الأضواء لأبواب الغرائز المكبوتة وفصول الفلتان الأخلاقي والوطني بما يجعلك تحنّ الى عهود الصحافة والطباعة والكتابة التي كان يدرك الجميع الحكمة في أرحامها وهي تبدو الآن فالتة من أي ضابط أو سلطان أو لسان.
ثانياً، عاش اللبنانيون والسفراء والقناصل وجمعيات المراقبة القلق الهائل في انهيارات التخاطب القائم بين كتل ولوائح عجيبة وغريبة للمرشحين قاربت الألف. تذكّرنا هذه بغريب وعجيب ألف ليلة وليلة التي قضى المستشرق الفرنسي عمره في جوفها ولم يخرج. هل البرلمان شركة خاصة أو إدارة أو حيّز سريع ورخيص لوظيفة يفترض الوصول إليها بشتّى الوسائل؟ للبرلمانات أعتاب ووقار وثقافة وحضارة غير قابلة للإستيراد. ماذا يعني حجز هويات الكثير من الناخبين المحتاجين لرغيف الخبز قبل يوم الإقتراع لإعادتها لهم مشكولة بكم ألف ليرة أو بصفعة على القفا إن لم نقل أكثر بعد الإنتخابات. كان هذا كي لا يقترعون فتحصر النتائج لنفهم معنى الإقبال الضعيف على صناديق الإقتراع في العديد من المناطق؟ كيف إلى ضياع المحاضر وفتح الصناديق أو إستبدالها أو إجبار المقترعين على إستخدام الأقلام الموجودة في غرف الإقتراع حصراً وشيوع الفكرة بأن الحبر المستخدم فيها ستختفي آثاره بعد ساعتين من إستعماله فتحتسب الأوراق بيضاء لاغية؟ كيف نبرّر أفلام المشاجرة وتقاذف المسؤوليات بين بعض القضاة الذين أشرفوا على الدوائر الإنتخابية؟ من يجيب المعترضين الكثر من الراسبين والمتحفّزين للطعن في الإنتخابات عبر مجلس شورى الدولة إلى أسئلة طويلة تحتاج لأبحاث طويلة ومناقشات هادئة في مستقبل الديمقراطيات العربيّة التي ما زالت طفلة طرية في الثمانين من عمرها.
ثالثاً، يدفعنا المشهد إلى التفكير بخطورة إسقاط الربط بين الثقافة والديمقراطية في مستقبل الحكم، والكفّ عن اعتبار الرأي العام نقيصةً يمكن عجنها بين الأصابع المختلفة إلى الأبد. يمر لبنان في مرحلة إنتقالية دقيقة لا تسمح لنا أن ننظر بعين الرضى إلى النتائج فنتغاضى عن سلاسل من انهيارات وطنية إقتصادية ومذهبية وحزبية فاقعة لا يخرجنا منها سوى قانون أحزاب عابرة لها في بقعةٍ صغيرة من إختلاط يومي وزواج مختلط واسع وأبواب مفتوحة على الغير في قارة السياحة السادسة في العالم. لبنان منصة إقليمية مستمرة لمراقبة المحيط وساحة إعلامية وتعبيرية مفتوحة بما يتجاوز تاريخه في عالم من المتغيّرات والانهيارات التي تخلّفها الثقافات المتواترة. هناك مخاطر تجمع المعتقدات والمعرفة والأخبار والمعلومات في سلطاتها الفوريّة ووقعها على الناس. إنّها معلومات تظهر وكأنّها لا تدحض، سواء كانت نصوصاً مقدسة تاريخياً أم "إلكترونية" مستلّة من بنك للمعلومات. تسقط الشكوك إذ يدعم أحدُهم رأياً له قاطعاً بما رآه على الشاشة، بعدما كانت حججه الاقناعية، مبنيّةً على المكتوبة حتى الصحافيّة منها، وكان قبلاً يدعمه بوصايا إلهية.
رابعاً، أفرغت سلطات الزعماء الأسطورية رغم الصور العملاقة المطعّمة بالشعارات الإغريقية المسروقة والمنفوخة والتي لا مضامين لها غير الكذب والإحتيال. الجدار شيء والواقع في لبنان شيء آخر. هناك فشل جمع بيروت وإسبارطة وفرنسا وبريطانيا في مشهدٍ مخادع. إستعصى ترسيخ بصر اللبناني في أعقاب قراءة الشعارات البصرية كعنوان يصلح للبحث عن لبنان الجديد. سحبوه من المواطنيّة إلى العالميّة فوق مستحيلات الكهرباء والماء والتعليم والطبابة والدواء والبطالة والنزوح والهجرة واليأس والفساد الكبير والنهب لكيس الدولة وتفشي الأمراض وأكوام القمامة والتلوّث في الماء والهواء، فلم يعد مواطناً واعياً بل مستهلكاً (بكسر اللام وفتحها) "خاضعاً" لسلطات الإعلان وخداعها في خضمّ من الصور الجذابة الفارغة، لا مساواة فيها، لكنها صور تعجّ بالفوقيّة والبراعةً التقنيّة لا بالكفاءة والمقدرة والعمل والنظافة. أمس عاد اللبنانيون من الكذبة إلى الحفر الإجتماعية وكأنّهم لم يفعلوا شيئاً: عادوا الى أوّل السطر.
أمس، خرج لبنان فقيراً في سلطات التشريع ومفتقراً ألى المنظومات الوطنية حيال طغيان تسليع حاجات اللبنانيين الكثيرة وطمس قفزاتهم في مشاعيات المعرفة وإختيارات المصادفة والمال عند النظر الى المستقبل. تذوي لمعة السلاطين في الصور فوق أنقاض الفكر والروح وقد لا يبقى منها سوى بريق النجوميّة السريعة الذوبان الجاهزة لتشويه الفكر والبطولة والقداسة في ضمان التغيير في لبنان. زارع الكلام غير باذره في العواصف الهوجاء وفالش الصور فوق الجدران غير حافرها في الأذهان وثائق وبرامج في نهضة الأوطان التي قد ترتجف وتنهار عندما يعبث بأحلامها الزعرا.................. إملأوا الفراغ بالصمت.