خبر مُفرح من الجزائر

أضاع بوتفليقة 20 عاما من الحكم كان بإمكانه أن يجعل فيها الجزائر دولة طبيعية.

يبقي تحديد موعد للانتخابات الرئاسية في الجزائر حدثا في غاية الايجابية. انّه باختصار خبر مفرح وظاهرة صحيّة في منطقة تعجّ بالاحداث الأليمة، خصوصا في ضوء ما تشهده ليبيا وحتّى تونس. يثبت ذلك ان البلد يسعى بالفعل إلى الخروج من ازمة عميقة ناجمة عن مرض الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي يتحرّك منذ ما يزيد على خمسة أعوام على كرسي نقال بعد اصابته بجلطة في العام 2013.

من الطبيعي الّا يطلب بوتفليقة ان يكون مرشّحا لولاية جديدة بعدما امضى عشرين عاما في الرئاسة استطاع خلالها تحقيق انجاز كبير. يتمثل هذا الإنجاز في تحقيق السلم الأهلي بعد عشر سنوات من الاضطرابات. استطاعت المؤسسة العسكرية في تلك السنوات خوض معركة لا هوادة فيها من اجل القضاء على الإرهاب الذي وقفت خلفه جماعات متطرّفة احتمت بالإسلام لتنفيذ مآرب لا علاقة لها به.

الامل كبير بان يتمسّك الرئيس الجزائري، او على الاصحّ أولئك الذين يشكلون الحلقة الضيّقة المحيطة به، برفض الولاية الخامسة. سيقدّم بوتفليقة بذلك خدمة أخيرة إلى بلده الجزائر ويؤكّد انّه استطاع بالفعل وضع البلد على طريق التعافي بعيدا عن المصالح الشخصية لمجموعة من الشخصيات تمارس حاليا دور الرئيس. في مقدّم هذه الشخصيات شقيق بوتفليقة سعيد الذي مارس في السنوات الأخيرة دورا محوريا على الصعيد الجزائري مالئا الفراغ الذي تركه مرض الأخ الأكبر في العائلة.

في العام 1998، بدأت المؤسسة العسكرية تفكّر في الانتقال إلى مرحلة جديدة بعدما "انقذت الجمهورية"، على حدّ تعبير سياسيين بارزين دعموا الجيش في حملته على المتطرّفين الذين نقلوا في مرحلة معيّنة نشاطهم إلى خارج الجزائر، إلى أوروبا تحديدا. نفذ ارهابيو "الجبهة الإسلامية المسلّحة" (GIA) عمليات في فرنسا من بينها تفجير قنبلة في قطار للركاب!

أظهرت المؤسسة العسكرية التي كانت تتحكّم بها الاجهزة الأمنية التابعة لها في مقدّمها جهاز المخابرات العسكرية، الذي كان على رأسه الجنرال محمد مدين (توفيق)، قدرة كبيرة على التعاطي مع الواقع. اختارت في 1998 ان يكون بوتفليقة مرشّحها للرئاسة في نيسان – ابريل 1999. كفّر العسكر في الجزائر عن ذنب ارتكبوه في مطلع العام 1979 حين قرروا ان يكون احدهم خليفة لهواري بومدين. وقتذاك، كانت المنافسة على خلافة بومدين بين وزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي الذي كان يمثل بيروقراطية الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني). امّا بوتفليقة، فكان ينتمي إلى الحلقة الضيقة التي أحاطت بالرئيس الراحل منذ انقلابه على احمد بن بلّا في العام 1965 وقيادته الجزائر إلى لعب دور كبير على كلّ الصعد من منطلق ايمانه بانّها قوّة إقليمية تستطيع ممارسة أدوار خارج حدودها، خصوصا على الصعيدين العربي والافريقي.

استبعد العسكر بوتفليقة ويحياوي لمصلحة الشاذلي بن جديد الذي كان عميد الضباط الذين يحملون رتبة عقيد في الجيش. كان الهدف من اختيار الشاذلي بن جديد واضحا كلّ الوضوح. يمثّل هذا الهدف في بقاء الجيش في السلطة ورفض تسليمها إلى مدني مثل بوتفليقة، كان متّهما بانه ليبيرالي، او حزبي مثل يحياوي كان هناك خوف من تشدده وميله إلى انتهاج خط يساري متأثرا بتجربة الحزب الواحد في الدول الدائرة في الفلك السوفياتي.

امتلكت الجزائر القدرة على متابعة سياسة تقوم على استخدام موارد النفط والغاز من اجل المحافظة على السلم الاجتماعي، إلى ان جاءت خضة خريف العام 1988 التي كشفت هشاشة النظام على الصعيدين السياسي والاقتصادي. تبيّن وقتذاك ان العمود الفقري للنظام هو الجهاز الأمني الذي تحتضنه المؤسسة العسكرية ولا شيء آخر غير ذلك.

لم تلجأ المؤسسة العسكرية إلى بوتفليقة في العام 1998 الّا بعد استنفادها كلّ الخيارات الأخرى واكتشافها انّ ثمّة حاجة إلى ترجمة سياسية للانتصار الذي حققته على الإسلاميين بكلّ اشكالهم وبكلّ القبعات الملوّنة التي يرتدونها بين الحين والآخر من اجل تسويق نفسهم في الغرب...

لعب بوتفليقة بعد وصوله إلى الرئاسة دور الرئيس الحقيقي تعاونه المجموعة الصغيرة المحيطة به. مارس في 1999 الدور الذي حرم منه في 1979. أراد بكل بساطة ان يكون بومدين آخر متجاهلا ان الجزائر تغيّرت وانّ المنطقة كلّها تغيّرت ايضا وان الحرب الباردة، التي كانت تسمح للجزائر بممارسة أدوار معيّنة خارج حدودها، صارت من الماضي.

ثمّة عوامل عدّة ساعدت بوتفليقة إلى حد كبير في بسط سلطته. في مقدّم هذه العوامل ارتفاع سعر النفط والغاز. مكن ذلك الجزائر من استعادة عافيتها في وقت بدأ الجزائريون يعون معني تفادي أي عودة إلى الأعوام الممتدة ما بين 1988 و1998.

لعلّ الإنجاز الاهمّ للرئيس الجزائري يتمثل في سلسلة عمليات التطهير التي قام بها داخل المؤسسة العسكرية. شملت هذه العمليات التخلّص من الرجل القوي، أي من "توفيق" مسؤول المخابرات العسكرية الذي لم يكن احد يتجرّأ على لفظ اسمه بصوت عال. اجرى تعديلات كبيرة في العمق داخل القيادة العسكرية. حوّل الرئاسة إلى صاحبة الكلمة الاولى في البلد.

لا شكّ ان الجزائر تمرّ حاليا في ازمة داخلية عائدة إلى هبوط أسعار النفط والغاز مجددا والى عجز النظام عن تطوير نفسه من جهة وجعل الاقتصاد يتخلّص من اسر النفط والغاز من جهة أخرى.

جاء بوتفليقة بالسلم الأهلي. لا يمكن الّا الاعتراف بانه لعب دورا في غاية الاهمّية على هذا الصعيد. لكنّه فشل في ميدانين. الميدان الاوّل هو تكريس اللعبة الديموقراطية بدل الانصراف إلى تصفية حسابات ذات طابع شخصي مع كثيرين، بمن في ذلك المؤسسة العسكرية. امّا الميدان الآخر الذي لم يحسن التعامل معه فهو السياسة الخارجية. كان في استطاعة الرئيس الجزائري لعب دور إيجابي على الصعيدين العربي والإقليمي، لكنّه بقي اسير اللغة الخشبية التي كانت معتمدة في عهد بومدين. لعلّ الدليل الاهمّ على ذلك العجز عن اعتماد موقف مختلف من العلاقة مع المغرب الجار الأقرب. لا يتعلّق الامر بإعادة فتح الحدود المغلقة منذ العام 1994 فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى قضية الصحراء المغربية التي هي في نهاية المطاف مشكلة عالقة بين الرباط والجزائر ولا شيء آخر مختلفا.

ما زالت الجزائر في عهد بوتفليقة تعاني من السقوط في فخّ اللغة الخشبية التي هي في الواقع وقوع في اسر الشعارات الفارغة. هذا واقع لم يستطع بوتفليقة تجاوزه على الرغم من انّه كان مؤهلا لذلك. صنع فارقا في الداخل الجزائري... لكنّه اختار استمرار الجمود على الصعيد الخارجي متجاهلا ان العالم كلّه يتغيّر. أراد بكلّ بساطة ارتداء بذلة بومدين التي هي من صنع ستينات القرن الماضي ولم ينجح في ذلك.

هل يؤدي الآن الخدمة الوحيدة التي يستطيع تقديمها للجزائريين وللجزائر؟ هل يسمح بإجراء انتخابات رئاسية حرّة إلى حدّ ما تأتي برئيس طبيعي لبلد ما زال يرفض التصرّف بشكل طبيعي مع محيطه؟