الجبر الإسلامي نواة العقلانية الحديثة
د. هند عبدالحليم محفوظ
بدأت قصة الرياضيات العربية حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة "السندهانات" (أي مقالة الأفلاك التي عرفها العرب باسم "السندهند")، وهي موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، وتتألف من جزئين، أحدهما عن الأزياج (أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم)، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول. حملها إلى بغداد العالم الهندي كنكه عام 153هـ - 770، وترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت 796) وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت777).
كانت " السندهانات" أو "السندهند" فاتحة الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية. تنامت فيما بعد عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصاً على يد اثنين من كبار الرياضيين العرب هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند.
لم تشف "السندهند" غليل العقلية العربية الناهضة المتشوفة آنذاك. فأمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب إقليدس "أصول الهندسة" ليكون أول ما ترجم من كتب اليونان، وأيضاً البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة، وإلى تفكير الحجة البرهاني وإلى الاستدلال الاستنباطي الرياضياتي، مأثرة الإغريق العظمى.
اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من سواها من مباحث العلوم العقلية. وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي. وضعها الكندي (184- 250هـ) – أول الفلاسفة الإسلاميين – كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعاً، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسراً للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه "لاتنال الفلسفة إلا بالرياضيات" وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلاً عن تسعة عشر في النجوم.
الجبر كان هو النواة العقلية للحداثة. أتاح نشر استراتيجيات ذهنية جديدة تأدت للعقلانية الجديدة التي كانت مقدمة شرطية لما سمي بعقلانية العلم الحديث
وإذا كان ابن سينا (370- 428 هـ) – الشيخ الرئيس- يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات وأخيرا الإلهيات، فهذا يعكس مسار العقل وتدرج خطاه فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، وصنف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسة وهي العدد والهندسة والهيئة (الفلك) والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضة الفرعية. فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة تتفرع علوم الهندسة العملية التقانية. أما علم الهيئة فيتفرع عنه علم الأزياج والتقاويم. ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة.
ونلاحظ في هذا تكامل العلم النظري والتطبيقي. سلم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية بوصفها مبرهنات يقينية لا بد أن تحتل موقعها في بنية العقل. وحتى الإمام الغزالي حين صب جام غضبه على العقلانية وعلوم العقل، استثنى الرياضيات وقال إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه ينكر الرياضيات، فظلت الرياضيات دائماً" لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها بتعبير الغزالي.
وقد عرف العرب الترقيم الهندي الذي يستخدم الأرقام التسعة المعروفة، ثم الصفر. وكان الهنود يستعملون سونيا Sunya بمعنى الفراغ للدلالة على الصفر، فصارت هذه الكلمة في اللغة العربية صفر، ووضعت في الحساب نقطة للدلالة عليها. وكلمة "صفر" في اللغة العربية تعني لاشيء. حتى قبل إن يعرف العرب الترقيم الهندي و"الفراغ" الهندي الذي كان يرسم في شكل دائرة صغيرة. وقيل إن الخوارزمي هو أول من شرح نظام الأعداد الهندي في عمليات الطرح، إذا لم يكن هناك باق، نضع صفراً ولا ندع المكان خالياً حتى لا يحدث لبس بين خانة الآحاد وخانة العشرات. وذكر كذلك أن الصفر يوضع على يمين الرقم. ونقل كتاب الخوارزمي إلى اللاتينية في الأندلس في القرن الثاني عشر، وبذلك أدخل نظام الترقيم الهندي العربي إلى أوروبا فحل محل الترقيم اللاتيني إلى يومنا هذا.
أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم تنامياً يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي، لتقوم الجوانب السوسيولوجية بدورها. إنها جوانب من قبيل اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع، ثم نظام المواريث الإسلامي المعقد، بعض مؤرخي العلم أمثال جوان فرنيه Juan Vernet يرون القرآن الكريم نقطة البدء في الرياضيات العربية بسبب هذا النظام. وثمة أيضاً تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها. ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشكلات حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة. هذا فضلاً عن مشكلات عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.
وكان تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية يدفع الإسلاميين إلى اهتمام مكثف بالفلك (الهيئة). خصوصاً وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفاً، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقاً لمواسم الحصاد. والمحصلة أن العرب نجحوا في تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأميركتين وإثبات كروية الأرض.

وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر في "الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة" الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي فيما بين عامي (813 - 833) أي في عهد الخليفة المأمون. ولأول مرة في تاريخ العرب صيغت كلمة "جبر" وظهرت تحت عنوان يُدل به على علم لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خص به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصور لمفردات تقنية جديدة معدة للدلالة على الأشياء والعمليات. ويحتفظ "الجبر" حتى الآن باسمه العربي في شتى اللغات، منذ أن ترجم روبرت أوف شوستر كتاب الخوارزمي في عام 1245 ناقلاً المصطلح العربي كما هو إلى اللغة الأوروبية لأنه ليس له مقابل عرفوه من قبل.
ويعرض كتاب "الجبر والمقابلة" أسس العلم بصورة منهجية ناضجة قابلة للنماء، يعرض المنهج المنظم لحل معادلات الدرجة الثانية وسواها. الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات بحيث يستبعد منها العدد السالب، بينما تمثل المقابلة طريقة لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كميات متساوية.
أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم "الجذر" إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفياً تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم "المال". انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه لا شرقي ولا غربي.
لم يتوان المعاصرون للخوارزمي، والتالون له، عن شرح وتفسير كتابه، خصوصاً أبا كامل شجاع بن أسلم الذي أضاف فصلاً، وثابت بن قرة ومنصور بن عراق الجيلي وأبو الوفا البوزجاني وسنان بن الفتح الصيداني .. وسواهم.
شهد الجبر قفزة تالية مع عمر الخيام الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة. وتدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي / الثالث الهجري. وراحوا يطبقون الجبر على الحساب، والحساب على الجبر، وكليهما على حساب المثلثات. وكذلك طبقوا الجبر على نظرية الأعداد لإقليدس، وعلى الهندسة، كما طبقوا الهندسة على الجبر.
وضعت هذه التطبيقات أسس فروع أو على الأقل مباحث جديدة لم ترد من قبل للإغريق أو لسواهم ، ثم تغيرت معها الرياضيات في لغتها وتقنياتها ومعاييرها.
لم يكن تأسيس علم الجبر مجرد إضافة علم إلى العلوم، بل تأسيساً لمنهجية متكاملة ونموذج ثوري بكل معنى قصده توماس كون في فلسفته للثورات العلمية من حيث تكامل هذا النموذج مع الإطار المعرفي، أبرز رشدي راشد في تحقيقه لكتاب الخوارزمي ما تدين به نشأة هذا العلم الجديد إلى علم اللغة وإلى حساب الفرائض في الفقه الحنفي، بخلاف العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها.
ومن حيث تطور المنهجية العلمية، حدث ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية، لم تنتقل إلى العلم الحديث فحسب بل ميزته تمييزاً. وقد تأسست في تلك الفترة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر على يد علماء عاشوا في بقع متباعدة، من إسبانيا المسلمة حتى الصين، وكتبوا جميعاً باللغة العربية. كان الجبر هو النواة العقلية لتلك الحداثة. أتاح نشر استراتيجيات ذهنية جديدة تأدت للعقلانية الجديدة التي كانت مقدمة شرطية لما سمي بعقلانية العلم الحديث.