هل ستكتب إسطنبول نهاية عهد أردوغان؟

الآليات الديموقراطية ستقود ولو بعد حين إلى نهاية حقبة أردوغان ولكن في الكثير من الحالات المشابهة يميل الخاسر في الانتخابات بدل التسليم بخسارته لأن يصبح أكثر استبدادية من أجل البقاء في السلطة وستكشف الأشهر المقبلة أي الطريقين سيختار أردوغان.

بقلم: عماد بوظو

شكّل شهر آذار/مارس الماضي نقطة الانكسار في حياة أردوغان السياسية، فبعد أربعة عشرة انتخابا واستفتاء خلال السنوات الماضية انتصر فيها كلّها، أتت نتيجة الانتخابات الأخيرة صادمة، نتيجة خسارة حزبه عشر بلديات من الخمسين التي كان يديرها قبل الانتخابات، وتركّزت خسارته في المدن الكبرى، إسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة وأنطاليا، حيث تتواجد القطاعات الاقتصادية الأكثر أهمية، فمن إسطنبول وأنقرة فقط يأتي 70 في المائة من الناتج المحلي التركي، وحيث توجد الشريحة الأكثر ثقافة في المجتمع التركي أو ما يطلق عليهم اسم "الأتراك البيض" أي الطبقة المتعلمة وكوادر الدولة.

كانت خسارة إسطنبول تحديدا مفاجئة لأردوغان، خصوصا بعد أن دفع رئيس وزرائه بن علي يلدريم لتقديم استقالته ليكون مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلديتها لأهميتها الاستثنائية، ورغم ما قامت به عشرات الجمعيات الإسلامية الخيرية المرتبطة بحزب العدالة والتنمية التي تنشط في إسطنبول وتقدم مساعدات لعشرات آلاف العائلات وتستند عليها الماكينة الانتخابية لهذا الحزب، وتتهم المعارضة التركية هذه الجمعيات ذات الميزانية العالية بأنها تستخدم لرشوة الناخبين وشراء ولاءاتهم، ورغم توظيف الحزب الحاكم وسائل الإعلام الرسمية لصالحه، قال الكاتب إيلي ليك في مقال بوكالة بلومبيرغ: أن البيئة الإعلامية كانت منحازة بشدة لصالح تحالف أردوغان خلال هذه الانتخابات، بالإضافة إلى أن هذه الانتخابات قد حدثت بعد حملات قمع متواصلة استمرت قرابة الثلاث سنوات تمّ فيها اعتقال وتسريح مئات آلاف المعارضين أغلبهم من السلك التعليمي والقضائي والعسكري والإعلامي، ومع كل ذلك لم يتمكن مرشح حزب العدالة والتنمية من تحقيق النصر في إسطنبول.

كما كان لهذه النتائج مدلول خاص كونها أتت بعد الدستور الجديد الذي ركّز جميع السلطات بيد أردوغان، مما حمّله شخصيا مسؤولية هذه الخسارة، فمع النظام الرئاسي الذي بناه، أصبح أردوغان رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس البلديات والأسواق التجارية الذي يحدد الأسعار فيها، حتى معدّل الفائدة في البنوك كان هو المسؤول عنه، هذا بالإضافة إلى القيمة المعنوية التي يعلّقها أردوغان على هذه المدينة التي شهدت انطلاقته السياسية عندما فاز برئاسة بلديتها عام 1994 كمرشح لحزب الرفاه، ولأن تلك المدينة بعدد سكانها البالغ 15 مليون تعتبر تركيا المصغرة، ونتيجة للمقولة المعروفة، من يسيطر على إسطنبول يسيطر على تركيا.

لم يستطيع تقدم حزب العدالة والتنمية في المناطق الكردية على حساب حزب الشعوب الديموقراطي الكردي أن يعوّض عن خسارته إسطنبول، رغم قيام اللجنة العليا للانتخابات بحرمان بعض مرشحي حزب الشعوب من مناصبهم التي فازوا فيها بتهم مختلفة ليحل مكانهم الفائزون بالمركز الثاني وهم مرشحو حزب العدالة والتنمية، كما لم تنجح محاولات التشكيك والاعتراض على هذه النتائج والزعم بأن الجريمة المنظمة عكّرت صفوها، لذلك فقد طالب أردوغان قبل أيام بإعادة الانتخابات في كامل إسطنبول لأن إعادة فرز الأصوات في بعض مراكزها لم تؤدي إلى تغيير نتائجها، قال إريك إيدلمان السفير الأميركي السابق في تركيا، إذا تم إلغاء هذه النتائج فستكون هذه نهاية الانتخابات في تركيا، كما قال إيلي ليك: الولايات المتحدة يجب أن لا تسمح لأردوغان بسرقة انتخابات إسطنبول وأنقرة من المعارضة من خلال إعادة فرز الأصوات.

أحد أهم أسباب هذه الخسارة أن انتعاش الاقتصاد التركي الذي مكّن أردوغان من البقاء في السلطة هذه الفترة الطويلة لم يعد من السهل مشاهدته، فقد ارتفع الدين الخارجي وزاد عجز الميزان التجاري، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وارتفع معدل البطالة والتضخم، وانخفض مستوى المعيشة، وصف الكاتب والباحث التركي محمد زاهد غول التراجع في مستوى معيشة المواطنين الأتراك خلال السنوات الأخيرة، "الموظف الذي كان يقبض ما يعادل 2500 دولار بالليرة التركية، انخفضت القيمة الشرائية لراتبه لحدود 850 دولار نتيجة هبوط سعر الليرة"، التي خسرت 30 في المائة من قيمتها عام 2018، وفقدت 8 في المائة إضافية منذ بداية العام الحالي، ولذلك قام الأتراك بتحويل مدخراتهم للعملة الصعبة نتيجة تراجع ثقتهم بالليرة، ودخل الاقتصاد التركي مرحلة الركود لأول مرة منذ عشر سنوات.

كما أن نتائج هذه الانتخابات واعتراضات حزب العدالة والتنمية عليها سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد التركي بسبب قلق المستثمرين حول الاستقرار السياسي والاقتصادي، كما نظر المستثمرون إلى وعود وزير المالية والميزانية بيرات البيرق "زوج ابنة أردوغان" بإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية بأنها حتى الآن مجرد خطابات، ولذلك لم ترتفع قيمة الليرة بعد تصريحاته في العاشر من الشهر الحالي، بل تراجعت 1.2 بالمائة إلى 5.75 ليرة مقابل الدولار، بما عكس خيبة أمل في سياسة الإصلاح الاقتصادي التي عرضها، بالإضافة إلى عدم اليقين الناجم عن الانتخابات البلدية، وقال الصحفي إيسار كاراكاش أن العلاج الوحيد لهذا الوضع هو إعادة حكم القانون لجذب صناديق التمويل الأجنبية، لتغطية عجز الميزان التجاري.

هناك فوق كل ذلك الأزمات السياسية المتكررة في علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين مثل الولايات المتحدة وأوروبا وأغلب دول الخليج، مما انعكس على فرص استثمار الأموال والسياحة فيها، ويلعب عناد الرئيس أردوغان الدور الرئيسي في تلك الأزمات، كان آخرها إصراره على صفقة صواريخ إس 400 الروسية، فقد قال في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس بوتين في الثامن من الشهر الحالي، لقد وقّعنا على هذه الصفقة وانتهى الموضوع، كذلك معارضته لتصنيف أميركا للحرس الثوري الإيراني كتنظيم إرهابي وللعقوبات الأميركية على إيران، ونتيجة لذلك هناك ضغوط قوية على الإدارة الأميركية من قبل الكونغرس لفرض عقوبات على تركيا مما قد يضاعف من مشاكلها، وظهر عناده في تمسّكه بموقفه الداعم للبشير في السودان واعتراضه على سيطرة الجيش على الحكم بما أسماه انقلابا عسكريا، رغم أن بقية حلفاء البشير في روسيا ومصر ودول الخليج قد سارعوا لتغيير موقفهم عندما مالت الكفة ضده وادعوا تأييدهم لمطالب الشعب.

يبدو حسب نتائج الانتخابات الأخيرة أن الآليات الديموقراطية ستقود ولو بعد حين إلى نهاية حقبة أردوغان، ولكن في الكثير من الحالات المشابهة يميل الخاسر في الانتخابات بدل التسليم بخسارته لأن يصبح أكثر استبدادية من أجل البقاء في السلطة، وستكشف الأشهر المقبلة أي الطريقين سيختار أردوغان.

نشر في صفحة الحرة