ثنائية الحيوان والإنسان في قصص ستيفان زفايغ

أن يأتي عنوان القصة في شكل سؤال مثل "من الذي فعلها؟" فهذا بعيد كل البعد عن المتداول والمتعارف عليه.
أحداث القصة تنطلق بشكل روتيني، يتمطط أحيانا أمام دقة الوصف التي يغدقنا بها ستيفان زفايغ
أحداث القصة تدور في الريف الإنجليزي أين قرر عجوزان قضاء ما تبقى لهما من السنين في مكان ناء بعيدا عن ضوضاء المدينة

من المتداول أن يعبر عنوان الرواية أو القصة بشكل من الأشكال عن مضمونها، وذلك عبر إدراج المكان الذي تدور فيه أحداث القصة أو عن طريق ذكر بطل الحكاية، مثالا عن ذلك عنوان بعض قصص ستيفان زفايغ كلاعب الشطرنج أو مانديل باع الكتب القديمة، هنا يدرج الكاتب بطله منذ التواصل الأول بينه وبين القارئ. 
أما في قصته "أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة" فقد أشار إلى عنصرين مهمين وهما أن البطل في القصة ستكون امرأة، وأن أربعا وعشرين ساعة هو الزمن الذي ستدور فيه أحداث الرواية.  
أما أن يأتي العنوان في شكل سؤال فهذا بعيد كل البعد عن المتداول والمتعارف عليه، فالصيغة الإنشائية التي يفتتح بها الكاتب روايته يكون وقعها مختلفا عن العناوين الإخبارية. بهذه الصيغة أراد ستيفان زفايغ أن يعنون قصته فاختار لها سؤالا يحيل به القارئ منذ البداية إلى المزيد من طرح الأسئلة على غرار من الذي فعلها؟ وماذا فعل؟ وكيف فعل؟ كل هذه الأسلة من شأنها أن تدفع القارئ نحو القصة التي لا تتعدى 46 صفحة حتى يبحث عن إجابة "هل فعلها؟" وعن الأسئلة التي توالدت في ذهنه. 
لم يشكل العنوان فقط السبب الرئيسي للاستغراب لدى القارئ، فالصورة التي كانت على الغلاف عززت الاندهاش فمن النادر أن تجد صورة حيوان على غلاف رواية أو قصة، أما في هذا العمل فتصدر وجه الكلب الغلاف. 
تنطلق أحداث القصة بشكل روتيني، يتمطط أحيانا أمام دقة الوصف التي يغدقنا بها ستيفان زفايغ، تدور أحداث القصة في الريف الإنجليزي أين قرر عجوزان قضاء ما تبقى لهما من السنين في مكان ناء بعيدا عن ضوضاء المدينة. لم تدم عزلة الزوجين كثيرا فخلال فترة ليست بالطويلة انتقل للعيش بجوارهما زوجان شابان. كانت الأحداث في الجزء الاول من القصة تسير بشكل طبيعي، لا شيء يمكنه أن يساعد القارئ على إيجاد إجابات للأسئلة التى خالجته عند قراءة عنوان القصة، لكن حدثا ما سيغير مجرى القصة عندما يقرر الجيران والزوجة مساعدة الزوج الشاب ولفت اهتمامه بجلب حيوان إليف يرعاه ويهتم به.
قلب دخول بونتو الكلب الصغير سير أحداث القصة فبات هو المهيمن، البارز ومحور اهتمام الزوج، فالدلال المفرط الذي أغدقه عليه جعله مع مرور الأشهر كلبا عنيدا، متغطرسا ولا مباليا يستبيح كل ما يصادفه متأكدا أنه لن يتم عقابه. لكن أمرا ما حدث جعل صاحبه يتغير من ناحيته فتم تهميشه بل وإلغاؤه بشكل مفاجئ ساعتها انقلبت تلك الغطرسة والكبرياء إلى حيرة أولا واستعطافا طلبا لتفسير ما يحدث "أرجوكِ أخبريني ما سبب تغير سيدي والآخرين تجاهي؟" ثم طغيان واستبداد عندما عجز عن فهم السبب.
ركز ستيفان زفايغ عند وصفه للكلب بونتو على الجانب العاطفي والتغيير الذي انتابه بمجرد أن أحس أن خطرا يهدد وجوده ومكانته في البيت، فأصبحت المشاعر هي التي تتحكم في ردة فعله، مشاعر تنسب عادة للإنسان لكن زفايغ تمكن من نسبها لحيوان حيث جعلنا نتعاطف معه أحيانا ونكرهه عندما نقترب من إيجاد إجابة لعنوان القصة. فمشاعر الغضب والدهشة المغلفة بالغيرة المؤدية في الأخير إلى التخطيط والانتقام عبر ارتكاب جريمة ذهبت ضحيتها تلك الطفلة التي سقطت في النهر بشكل غامض. 

ستيفان زيفايغ
زفايغ البس الحيوان ثوبا إنسانيا

ألبس زفايغ ذلك الحيوان ثوبا إنسانيا عندما نسب له هذه المشاعر وهذا السلوك فأبدع في إيصال ما يجول في ذهنه من أفكار ومشاعر من خلال نظراته وحركة جسمه فقط. انطلاقا من هذه القصة كشف لنا الكاتب عن الرابط الذي يمكن أن يجمع الحيواني بالإنساني وكيف يمكن لحيوان أن يكتسب صفات إنسانية بحتة. 
تلت هذه القصة قصة ثانية قصيرة جاءت تحت عنوان ليبوريلا لم تتعد 38 صفحة تدور أحداثها حول خادمة في العقد الرابع من عمرها انتقلت من أحد أرياف النمسا إلى بيت في المدينة لتعمل كطاهية هناك. كانت شديدة القبح ذات تقاسيم قاسية تفتقر لأي ملامح أنثوية لم تتلق في حياتها أي اهتمام من أي شخص كان، إلى أن انقلبت حياتها عندما عشقت سيدها فلم تعد خادمته فحسب بل أصبحت تسعى على راحته وخدمته مثل ما يخدم الكلب الوفي سيده فتخلت تدريجيا عن إنسانيتها تاركة المكان للحيوان الذي يسكنها ليطفو على السطح. 
عنصران جمعا هاتين القصتين أولهما عملية القتل غير المعلنة عنها والتي تفهم غالبا من خلال سياق الأحداث، ففي كلتا القصتين لا يصرح زفايغ بشكل علني عن مرتكب الجريمة بل يترك المجال لإحدى الشخصيات لتقوم بعملية التحليل والاستنتاج.
ثانيهما؛ الرابط الجامع بين ماهو إنساني وحيواني في كلا العملين، رغم أنهما عكس بعضهما البعض، ففي الأولى علاقة الكلب الذي اكتسب صفات إنسانية بسيده الذي يسعى لإرضائه بشتى الطرق والثانية علاقة المرأة التي ترضخ لسيدها وكأنها كلب تريد رضاه، هذه العلاقة ما هي إلا مواجهة بين الإنسان وحقيقته الباطنة.