خطاب المدى والرفض في شعر حاتم النقاطي

الشعر المعاصر أضحى سجين أخيلة كلاسيكية منتظرة لا تصنع التفرد وتكرس عبودية مثالية وجب اتباعها بقدسية مزيفة.
حلم الاندثار وصدى الإبحار في ثنايا الروح والشرخ الذي يقسم التلقي نصفين
فن التصوير في كتابة النقاطي بالخروج عن المألوف وتحطيم النماذج الماقبلية

كيف يتسنى للناقد أن يلج عوالم المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر الأديب حاتم النقاطي؟ سؤال يستمد مشروعيته من تشكلات الحداثة الشعرية في "قصائد للحياة وللوطن" الصادرة عن دار القلم سنة 2018 ويتبدى من الوهلة الأولى خيار الانزياح عن النماذج الشعرية الجمالية التي احتلت المراكز الأولى لدى القاريء المتقبل وهي التي تعود للوزن وتركز على النغمية والإيقاع الداخلي. 
لقد أضحى الشعر المعاصر سجين أخيلة كلاسيكية منتظرة لا تصنع التفرد وتكرس عبودية مثالية وجب اتباعها بقدسية مزيفة ولهذا كان اختيارنا لبعد المدى في كتابة حاتم النقاطي لأن البعد الفلسفي المتوارث عن مرجعيات عربية كالمعري واللزوميات ورؤى كونية كطاغور مثلا غوصا في بواطن الأشياء وتمثلات الكينونة الإنسانية العميقة والبسيطة في آن.
نعود في هذا الإطار إلى مقدمات أولى للكتابة الشعرية المتمردة التي تنتهج الرفض مسارا عميقا يضفي على القصيد أمارات الانفصال عن المعهود والبحث عن مسارات جديدة مثلما كان يغنيها الشاعر الأميركي والت ويتمان عن الشحاذ الشاعر ويضمن التماهي الفعلي الذي يقوض آثار العبودية في المخيلة حيث نقرأ في مقدمة المجموعة مع قصيد "يوميات الفقير":
"ما سمعت من يومها وسوسة...
أذكر عظمة جسد يسافر في كل الزوايا
باسمة امرأتك في الخيال
هي الجوكندا أينما نظرت إليها
اتسع الحلم في القلب وراوغتك الأحزان...". (ص.20)
إنه حلم الاندثار وصدى الإبحار في ثنايا الروح والشرخ الذي يقسم التلقي نصفين؛ نصفا يسكن للحلم والنصف الثاني يرحل بعيدا وينحت له تيها جديدا فاللغة الشعرية لا تمنح السكينة مثلما أعلن ذالك جبران وإنما هو ترداد لصور نحتت بالذاكرة وجعلت من الماضي المتكلس هشيما يلتهب مع كل نبرة صوت. ألم يقل:
"من صور في مخيلتنا أمتع من نفخ الحشيش." ( ص.21)

نبرة التفاؤل هنا صرخة مدوية لشاعر يرفض الغربة ويتوق لأغنية تنزاح به من الموت إلى الحياة وتكون الإحالة إلى أغاني الحياة من القوة بمكان

هو فن التصوير في كتابة النقاطي بالخروج عن المألوف وتحطيم النماذج الماقبلية التي يفتخر بها شعراء الكلاسيكية المحنطة بتكرار نفس المنظومات الكلامية والنغمية التي تلتصق بصيغ الجمل الشعرية وتكتفي بتكرار رشح قديم بال. وقد تبين من خلال التوجه المتالغوي لديه - أي التأمل في حالات الكتابة - أن التحرر هو المحرك الأساسي للعلية الشعرية بينما يتجلى لدي معاصريه من الكتاب نزعة للسكينة وربما كان للميراث الرومانسي الأثر الجلي في التوضأ بماء التخييل وجعل النفس تابعة لمسارات العبودية اللغوية الغارقة في النمطية، وقد كان للكتابة الشعرية الجديدة دورا مهما في صقل الأنوات المتعددة المنبثقة عن اللحظة الشعرية:
"نحن البارعون في رسم خيالات تفصيل مصابيحها.." ( ص.22)
ولا يسعنا في هذا الإطار التعرض بعمق للمرجعيات الفكرية ونكتفي بذكرها، مثل فلسفة الرفض لدى غاستون باشلار الذي ينظر للفعل اللغوي والتمرد الواعي العبثي لدى البير كامي في رؤيته للوجود والعدم.
لا يعني مفهوم الرفض في هذا الإطار البحث عن نماذج تعويضية بل هو إحساس عميق بأهمية لحظة الإدراك وربما كان وقع الكتابة في مدينة سيدي بوزيد الثائرة تأثير في نحت خيال شعري متطور داخل بنية فكرية صادمة.
"آويت إلى وحدتي
رحت أكتب وصاياي 
على أصداء الشخير." ( ص.29)
تلك هي الوحدة الحبلى بالذكريات والتي تسير في ركاب الرفض بذكر موت رمزي ربما كان في إحالة لاحتراق الفينيق حتى يتم بعثه من الرماد والوصول إلى بعث روح خلاقة وبعيدا عن الأفكار السليبة نجد التوق للحرية على مستوى اللغة ومستوى الصيغ الفكرية والبعد عن النغمية.
وربما كان لمقاربة الناقد سعد عبدالرحمان أكثر مصداقية حول التمرد: "هو شعور بالرفض لكل ما يحيط بالفرد. وما يترتب عليه من سلوك قد يتصف بالعداء والإزدراء والكراهية. لكل ما اصطلح عليه المجتمع من قيم و عادات ونظم.."
وما يلفت الانتباه داخل المنظومة الشعرية للنقاطي هو التوق للعجيب كمنفذ لقراءة اللحظة والشوق للبعيد اللامتناهي:
"قلت للجن في الليل اطفئوا النار فأنا الفقير اليتيم
لن يخبروا عني في الصحافة...
وحتى الناعي لن يردد (سبحان من هذه أحكامه
سبحان من عنده مفاتيح الغيب وهو علامه..)". ( ص.46)
يمكن لنا أن نستعرض علامتين بارزتين للكتابة وتتمثل الأولى في ذكر الطقس الديني المستمد من الواقع القيرواني المرتبط بالموت بصفته معطى يومي يتخطي الأنا السجينة والمحاطة بالحلم، ويتبدى العنصر الثاني في مفهوم الفقير بتحديده الأسيوي كإنسان مفرغ من اللذة والرفاهة والبحث عن أفق للوهو فالشعر المعاصر النثري يسري بين ضفاف واقعية جديدة متحررة من قيود الكون الآبق. وحري بنا أن نعود إلى مقاربة سعيدي محمد:
"إن «اقتران الشعر بالرفض» ميزة ينفرد بها الشعر أكثر من سواه من الفنون الأدبية الأخرى، ولعل أصح تعليل لذالك ما يرجع إلى نفسية الشاعر من جهة، لذلك يرجع إلى طبيعة الشعر، من جهة ثانية، وان الشعر فلم يكن ولن يك، بأوسع معاني الكلمة، فكل عمل شعري ثوري ووزن الشعر كذلك شعرا بحق إلاّ لأن كون وتتمرد عليه ُوفيه عنصر السرد ما ينطوي على رؤية للواقع وهو يستحق هذا الوصف بجدارة. إن الكتابة خروج من سكون «اللاتاريخ» إلى حركة التاريخ. من الطّراز الثوري وهو بهذا المعنى فعل ثوري الأول، وهو الضمان الأدبي وإطار أمثل لأراده ّ لاستمرار فعل الرفض الثوري. فإذا كانت الثورة محدودة الهدف، ثم أتيح لها أن تحقق هذا الهدف، فإن الرافض وتقع في خطيئة السكون المميت داخل الوعي  بالشعر وسرعان ما تفقد جوهرها الثوري. عند ذاك يظل الأمل معل ُبأن يعيد إليها الحركة أو يعيد إليها جوهرها الأول". 
وداخل فلك الكتابة يبدو الحب خارج إطار الهيكل الذي تحدث عنه الشابي ويندرج ضمن فعل فاكهة حرام في إحالة إلى النفس المسيحي المتمرد على الخطيئة والذي يستنجد بمرجعيات ميتافيزيقة، ويحيلنا هذا القول إلى استعراض موقع التراث وإعلان قطيعة مع أركانها وهو العنصر الأساسي في ثنايا الحداثة الشعرية. وداخل قصيد الفاكهة الحرام قصدية  واضحة:
"يا الله خذني اليك...
أو اليها...
في عينيها فسحة الفجر
فلا تتركني إلهي وحيدا...
هي نجم
هي ما لم أشته من فواكه... وما لم يزكم عيوني..." ( ص.50)
ومن المقاربات الشعرية يحيلنا القصيد إلى عمل الشاعر الصغير أولاد أحمد وفيها يتجلى نفس الألم والتماهي:
"إلهي:
لينبُتَ دودٌ مكانَ البلَحْ
ذهبنا جميعا إلى الإنتخابِ
ولم ينتخبْ أحدٌ مَنْ نَجَحْ!
***
إلهي،
حبيبي
ويا سنَدي
نشرتُ كتابًا جديدًا
فبعْهُ بلا عددِ"
وإن تأملنا الفاكهة الحرام نجد أن النقاطي استعمل استعارات تقترب من معجم ابن سيدي بوزيد، وربما كان لقدسية المكان ما يضفي على كتابة المدى والرفض علامة أخرى للتصدي للخنوع والتسلط وتوقع لاتساع رقعة الثورة بالعقول والأفهام ولنا أن نقرا هذا الإعلان عن نظر داخل المنظومة الثائرة:
"هي عيوني ... والمياه التي تعمدني...
يا الله دع روحي إليك تفر 
فما أصبحت بعد ذوقها
وما أمسيت قبل الغروب
هي في كلمة صنبوري..."

وهذا ما يدعونا لتصور العلاقة المبنية على صورة المرأة الوطن والخروج عن المعهود بكتابة تتمرد وتدعو للتغيير وهو وعي باللحظة الفارقة فالشعر لا يسكن للنوم الأبدي بل يوقظ الروح ويتجاوز النماذج المتخيلة ويبتعد عن تلك الأصنام التي خلقها اللهو اللغوي المفرط والحاجة إلى تبيان نغمية تغامر وتلج مسارات للحلم غريبة عن واقع معيش وكأنه بديل مفترض للخنوع والخوف لا يجترا على الكون. وقد أثار محمد الصغير أولاد أحمد نفس الهواجس بذكر الأنثى:
 "إلهي:
أدُلكَ فورا عليْها
على شفتيْها
على حلْمتيها
على اسمهَا العائلي
على شَعرِها العسلي
على ما تقولُ ولا تفعلُ
إلهَ السماءْ:
أضِفها إلى سُورة الشعراءْ!"
وبين كل هذه الأغاني المتفردة ترى الشعار يستبطن في "قصيد الماء والشرفات" نهجا ثانيا يخترق به المدى العادي إلى جوهر مختلف وإلى كينونة منفعلة تذكر الثمرة المحرمة والسير قدما نحو شاطيء النجاة ولا قارب في الافق حيث تبوح الحواس:
"يستباح شخيري
ما بين العين والاذن ينمو رعبي...
أناشدها العودة إلى منازلها 
من تحت أرضها
تدس بيدي المفاتيح..
ألعن النخاس... أنبهر من عرض البساتين... حجم التفاح..
أهم بها..." ( ص. 74)
ويكون بالتالي العنصر المائي مع دفق النار من منظور باشلار قد أعاد نقاء القدسية إلى فنائها، وأعلن الإدراك الأول مع إحالات خفية للرغبة بما أن الوعي الحسي هو أعلى قمم الانفلات من ربقة التقليد. مثلما يقول: "أدركت أن الماء أعمق أسئلتي" وهي بالتالي التساؤلات الفلسفية التي تنحت الذات.
إن القاريء لمجموعة حاتم النقاطي الشعرية يقع في ضدية الحياة وهو الفناء ولكنه يدرك مع الوقت نفسه أن الحقيقة هي التي تنتصر للأنا الذي قد يغفو ولكن سرعان ما يفيق وينتبه لمحدودية البنى الخيالية، ولنا أن نستعرض في هذا الصدد أن الشعرية لا تكمن في ترصيف حجر الكلمات وإنما تتم عملية الإثراء عن طريق انخراط المعاني في منظومة متناسقة بنغمية باطنية عميقة.
والتراث في هذا النسق استرداد لمتخيل ممكن أو هو: "كلّ ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أو البعيد،" وهي جدلية حرية بالاهتمام لأن الأنا الجمعي ينخرط في منظومة النحن ولكن يعلن رفضه للتبعية والخنوع. نستمع هنا في قصيد "الطفل والفراشة" إلى أصوات الوحدة:
"أي هذا الوقت .. ليس عندي غير بياض وردة
جناح فراش...
ذاكرة الطفل... حليب الصباح...
أي هذا الوقت..." ( ص.79) 
وفي ذالك إعلان للرفض واعتراف بالضعف ومن هذا المظور يختلف النقاطي على الصغير أولاد أحمد الذي يدعو للنبوة بينما يكون الطفل بذاكرته أكبر المرجعيات في بعدها الإنساني. حيث ينهي أولاد أحمد بدعوى النبوة:
"إلهي:
سَمِعْتُ تُـقاة ً يقولونَ عنكَ كلاما مُخيفـًا
فحاذفتهمْ بالكتابِ استوى حيّة ًلدغتهمْ جميعـًا
وعادت كتابـًا
إلهي العليْ:
ألا يُمكنُ القولُ إنّي نَبيْ."
ولقد كان صدى الثورة معلنا لدى النقاطي بخروجه عن بؤر الفساد حيث يقصف أوتاده في "الشعب الكريم" بطبيعة قوية عاصفة لا تبقي ولا تذر قائلا:
"لم يكن يعلم أنه سيلمس الشجر
وأنه سيحمل نبضها
غير أنه اعتلى كتف الهتاف
ليرن صوته
يسقط الطاغية
تسقط السيدة الفاضلة..
والعمدة والشعبة والثروة الطائرة....
ثورة لوت عنق الريح." ( ص.96)
للصوت أهمية قصوى في الإيمان بثورة على التراث وعلى النهب زمن الطغيان وهو صنو الشعر الحقيقي الذي يندرج في منظومة الرفض والخيال البناء وهو أيضا إعلان لشعرية المكان وقرب النثر من الشعر في زواج متعة يجاوز به الحدود ويرافق المسار الحقيقي لهذا التغيير ولربما كان القصيد الذي كتبه في 2011 "الشعب الكريم يستجيب لشعار الشعب يريد" فهو قد كتب :
"مساء الحرية 
هكذا قال
ومضى يرقص مع الفقراء." ( ص.99)
ما من شك في أن روح الكتابة الأصيلة أن تنخرط في الالتزام بالقضية الوطنية وأبعادها القومية من الانعتاق والبحث عن آفاق الحرية وبحث عن دور أكثر صدقا للمثقف الذي طالما سار في ركاب النظام. وقد أعلن العديد من المفكرين ضرورة الانزياح مثلما أعلن ختام عجارمة:
"الخلاصة النّظريّة الّتي تقول إنّ المفكّر العربيّ الإسلاميّ لا يمكنه الانفتاح على العقلانيّة الحديثة بشكل فعليّ ودائم وناجح، إلّا بتفكيك مفهومي الدّوغمائيّة والأرثوذكسيّة الخاصّين بتراثه، وكان يرى أنّ الطّريق إلى الحداثة تكون بالتّحرّر من سلطة النّصّ الّتي تكوّنت في ظلّ ثوابت العقل الإسلاميّ ومحدّداته، كما كان يرى ضرورة تحرير العقل الإسلاميّ من الأساطير العديدة الّتي تشوبه، إذ كان يقول بفتح العقليّات المغلقة وتحريرها".
إن ضرورة التحرر من سلطة النص إلى قوة المعرفة تحليق فكري به من الجنون جانب كبير لأنه ضامن للحرية والخروج عن الطرق المعهودة:
"سأحلق الآن ...
تحت السحاب ... فوق القمر
لي أجنحة وذاكرتي من رخام..."( ص. 116)
ربما كانت نبرة التفاؤل هنا صرخة مدوية لشاعر يرفض الغربة ويتوق لأغنية تنزاح به من الموت إلى الحياة وتكون الإحالة إلى أغاني الحياة من القوة بمكان، وإن قصدها الشابي برومانسيته الحالمة، فالشاعر النقاطي وسمها بكتابة للمدى والرفض حتى يصل إلى تبيان قراءة أعمق وأشمل للكتابة الشعرية الفلسفية في أبعادها اليومية والحينية باستدعاء الفضاء الأرضي القوي وهو سيدي بوزيد والفضاء البحري والسماوي وهو بني خيار حتى تجتمع المتناقضات ويؤرخ لباب للرحيل يفتح على مصراعيه لجيل جديد من الشعراء يرفضون التبعية ويحلقون بعيدا عن الأسراب العتيقة المنخرطة في اللغة الحجرية لنحت كيانات حيوية قابلة للتحويل والخلق والتفرد.