علي السيستاني: إرثه خلفاؤه والقيادة الشيعية بعد رحيله

أكبر تحدي أمام خليفة السيستاني النظام الإيراني وجماعاتها المسلحة في العراق ولبنان وغيرهما التي تشكل قوة ضغط حقيقية.

بقلم: علي المعموري

تعد عملية اختيار المرجع لدى الشيعة مختلفة تماماً عن نظيرتها لدى المسيحية الكوثوليكية؛ حيث البابا يتم اختياره في الأخيرة من قبل عدد من الكرادلة بشكل رسمي وخلال أيام قليلة من رحيل أو تنحي البابا السابق، ولكن تتم هذه العملية بتدرج أكبر وخلال مسافة زمنية أطول عبر تعاملات اجتماعية داخل وخارج الحوزة العملية، ما يجعل من الصعب التدخل السياسي في اختيار المرجع من قبل الأنظمة والدول.

ومن أهم القوى الاجتماعية الفاعلة في اختيار خليفة المرجع هي الشبكة الاجتماعية لوكلاء المرجع السابق، حيث يمكنهم توجيه الرأي العام الداخلي في الحوزة والخارجي لدى الأتباع والمقلدين نحو شخصية أو شخصيات محددة.

هناك تاريخ طويل لهذه العلمية يمكن إرجاعها الى عصر أئمة الشيعة أيضاً. ومن أبرز أمثلة ذلك في عهد الأئمة هو ظهور المذهب الواقفي(فرقة الواقفية) التي تأسس وانتشر في فترة قصيرة على مدى واسع من خلال استغلال شبكة الوكلاء للإمام موسى بن جعفر وترويجهم لفكرة الوقف على الإمام السابع وعدم الولاء للإمام الثامن. وعليه، فإن شبكة الوكلاء لها من النفوذ الاجتماعي الواسع ما يمكنها من ترجيح كفة مرشح ضد منافسيه.

وقد تمكن السيستاني من بناء شبكة اجتماعية واسعة من الوكلاء والمخولين بالحديث عن جانبه وإدلاء الرأي باسمه، كما أنه يدير هذه الشبكة ببراعة يبعدها من الاستغلال والتصرفات الفردية والتدخلات السياسية. فقد وضع السيستاني شروطاً صارمة على وكلائه منها عدم تقبل أي منصب سياسي وعدم إدلاء برأي لصالح جهة سياسية محددة أو ضد أخرى والتحلي بالحيادية المطلقة، مضافاً الى الالتزام بالضوابط الاجتماعية من اتخاذ أسلوب البساطة في الحياة والتجنب مما يسيء الى رجال الدين من التشبث بالماديات وغيرها. كما أنه حصر التحدث باسمه سياسياً على خطيبي كربلاء، السيد أحمد الصافي والشيخ عبد المهدي الكربلائي مضافاً الى وكيله في لبنان حامد الخفاف.

وستقوم هذه الشبكة المنتشرة في مختلف مناطق جنوبي ووسط العراق، مضافاً الى إيران والخليج ولبنان، بالقيام بدور مهم في توجيه الأضواء نحو مرشح محدد من بين المتنافسين على خلافته. وبطبيعة الحال، ستضمن هذه الشبكة استمرار منهجية السيستاني سياسياً واجتماعياً، وتعمل بمثابة حصن يمنع من النفوذ والتدخل السياسي في عملية صعود الخليفة.

كما أن هناك مؤسسات شيعية عملاقة تأسست وانتشرت في مختلف بلاد العالم - من الهند وإيران ودول الخليج ودول غربية عدة - منذ عهد الزعيم الشيعي الراحل آية الله أبو القاسم الخوئي، وقد ارتبطت تلك المؤسسات بمرجعية السيستاني والذي قد استطاع بتوسيعها خلال زعامته، ولهذه المؤسسات دور ونفوذ اجتماعي واسع وسط المحافل الحوزوية والمجاميع الشيعية في مختلف العالم، ما سيمنح لها القيام بدور فاعل في تعيين الخليفة وصيانة المؤسسة من التأثيرات السياسية القادمة من خارج المؤسسة.

 

خطاب خارج الجغرافيا

ابتعاد حوزة النجف من العمل السياسي المباشر والتدخل في الشؤون السياسية المرتبطة بالبلد المضيف، أي العراق، والبلاد الأخرى الحاوية لمجاميع شيعية، قد أعطى لها سمة عالمية عابرة للحدود السياسية والقومية. وفي المقابل، ارتبطت مدرسة ولاية الفقيه بضرورة اندماجها المباشر مع السياسة الإيرانية بالشؤون القومية والسياسية المرتبطة بالبلد المضيف، ما جعلها مرفوضة من قبل أنظمة الحكم وحتى المجاميع الشيعية في البلاد الأخرى، والتي ترى من خطاب ونشاط ولاية الفقيه تدخلاً ونفوذاً اجنبياً في الشؤون الداخلية. وما يحدث الآن من مظاهرات حاشدة يشارك فيها شيعة لبنان والعراق ضد التدخل الإيراني في بلادهم، خير دليل على ما سبق.

امتناع السيستاني من اللقاء بالشخصيات الشيعية المعروفة عنها بالتشدّد أو ذات أجندات سياسية معادية لأنظمة الحكم في المنطقة، مثل امتناعه من اللقاء بالسيد حسن نصر الله حين عودته من السفرة العلاجية في لندن عام 2004، أو الامتناع من اللقاء بالرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد او رئيس السلطة القضائية السابق في إيران السيد محمود هاشمي شاهرودي، منح له دوراً ابوياً مقبولاً لدى الجميع من مختلف أصناف الشيعة وغيرهم من الأغلبية السنّية في الدول العربية وأنظمتها السياسية. وفي الحقيق، يجيد السيستاني إدارة مقبوليته العامة من خلال تنظيم لقاءاته العامة، حيث يمتنع من اللقاء ببعض ويفتح بابه للبعض الآخر. فمن باب المثال، يمتنع من اللقاء بأحمدي نجاد المحسوب على التيار المتشدد في ايران، ويلتقي بهاشمي رفسنجاني وحسن روحاني المحسوبين على التيار الإصلاحي. او يمتنع اللقاء بالسيد حسن نصرالله ويلتقي بالزعيم الشيعي المعتدل نبيه بري.

من الواضح أن خليفة السيستاني لا يمكنه الاستمرار بزعامته على الطائفة، والتي هي عابرة للحدود القومية والوطنية والسياسية، إلا في حال تبنيه بنفس خطابه العالمي العابر للحدود. وسيشكل هذا ضغطاً اجتماعياً عليه من داخل وخارج المؤسسة كي يحافظ على الدور الأبوي للمرجع الأعلى ولا ينخرط في خلافات سياسية قد تترك آثارها السلبية على الطائفة وتفتتها وتمزقها تدريجياً. وهذا ما نراه في مخيم ولاية الفقيه الذي أدى تبنيه لرؤية سياسية ضيقه الى تمزيق الشيعة في إيران، من مناصر ومعارض ومحايد، ناهيك عن آثارها السلبية على وحدة الشيعة خارج إيران.

 

التحديات التي سيواجهها خليفة السيستاني

لعل أهم وأكبر تحدي سيكون أمام خليفة السيستاني هو النظام الإيراني وجماعاتها المسلحة المنتشرة في العراق ولبنان ودول أخرى في المنطقة، والتي تشكل قوة ضغط حقيقية تؤثر في السياسة والشأن العام الديني والاجتماعي في تلك الدول.

وكان النظام الإيراني منذ بداية زعامة السيستاني متحسسة وحذرة تجاه صعود خطاب النجف من منبر زعامته، والذي كان يتصور بأنه مات وانقرض بعد الممارسات القمعية لنظام البعث تجاه الحوزة في النجف. ولكن صعود السيستاني وانتشار نفوذه وزعامته في مختلف المناطق الشيعية في المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي قد فاجأ الجميع بما فيهم النظام الإيراني. فقد قام خطيب الجمعة في طهران عام 1994 الشيخ أحمد جنتي بهجوم عنيف ضد السيستاني، معتبرا إياه عميلاً بريطانياً، ومعبراً عن اعتراضه الشديد تجاه الدعوة لمرجعيته في إيران.

ورغم أن السيستاني استطاع احتواء الخطاب المعادي له في إيران من خلال سلوكه الحكيم والهادئ، ولكن سقوط نظام البعث عام 2004 وتوجه الأنظار الى السيستاني لرسم خريطة سياسية جديدة للبلاد أدى بحدوث تصادم واضح بين السيستاني والنظام الإيراني الذي كان يرسم خريطة مختلفة تماماً عن خريطة السيستاني.

فحين كان السيستاني يتبنى خطاباً ومنهجاً وطنياً لعراق ما بعد 2003 بعيداً عن التحيزات المذهبية والسياسية تجاه دول الجوار، فقد كان النظام الإيراني مشغولاً ببناء منظومة مذهبية وسياسية موالية له في العراق، ذات أجنحة سياسية وعسكرية في وقت واحد لضمان ارتباط العراق بإيران واستخدام أراضيه من قبل ايران في الصراع مع منافسيه الإقليميين والدوليين.

ورغم اتخاذ السيستاني الحذر الكامل من المواجهة مع النظام الإيراني، فقد استمر في العمل على منهجيته في بناء وطن ونظام دولة مستقلة في العراق. فقد استطاع إخماد المعارضة الشيعية المسلحة المدعومة من قبل إيران لمواجهة الولايات المتحدة خلال الأعوام الأولى من سقوط نظام البعث. كما أنه تمكن من منع حصول رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والمدعوم من قبل إيران، للحصول على ولاية ثالثة. وقد تمكن من تضييق دور إيران في اختراق مؤسسة الحشد الشعبي والسيطرة الكاملة عليه. فقد كانت تنوي إيران أن تجعل من الحشد الشعبي منظومة عسكرية وسياسية موازية للدولة العراقية، مثل دور الحرس الثوري في ايران أو حزب الله في لبنان، وذلك لضمان الحفاظ على مصالحها في العراق. ولكن استخدم السيستاني نفوذه الديني والاجتماعي من خلال ممثليه والتابعين له في المؤسسة لفصل بعض فصائلها المهمة مثل فرقة العباس القتالية ولواء المرجعية وغيرها من الاشراف والنفوذ الإيراني، وتوجيهها للانخراط داخل المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية.

ويبدو أن فترة المداهنة قد انتهت بين الطرفين مع صعود موجة المظاهرات الحالية في العراق. فحيث نرى أن السيستاني قد تبنى خطابا معارضا لإيران بلغة مباشرة. فقد تعمد أن يدعم المتظاهرين منذ انطلاق المظاهرات وينتقد الدور الإقليمي والدولي الذي يتدخل في الشأن العراقي في الأزمة الراهنة، ويتبنى خطابا مضادا تماما للخطاب الإيراني الرسمي تجاه المظاهرات، حيث يصفها السيستاني بمظاهرات شعبية ذات مطالب مشروعة بينما يعتبرها الخطاب الرسمي الإيراني تبعا لمرشد النظام علي الخامنئي عملية شغب أثيرت من قبل أنظمة المخابرات الامريكية والإسرائيلية والسعودية ودول غربية أخرى.

وقد توّج ذلك كله في خطبته الأخيرة بعبارة واضحة التعارض مع مدرسة ولاية الفقيه بقوله "إنّ المرجعية الدينية ستبقى سنداً للشعب العراقي الكريم، وليس لها الاّ النصح والارشاد الى ما ترى انه في مصلحة الشعب، ويبقى للشعب أن يختار ما يرتئي أنه الأصلح لحاضره ومستقبله بلا وصاية لأحد عليه".

نُشر في المدى البغدادية