أحزاب الإسلام السياسي تتجمّل ببرقع "الاعتدال"

حركة طالبان بعد عودتها إلى السلطة تحاول أن تظهر بصورة الحركة "المعتدلة"، مقارنة بما كانت عليه حين حكمت أفغانستان قبل 2001 لكنها في الواقع لا يمكنها أن تحقق ذلك نظرا لأنه يتعارض مع مبادئها وحقيقتها شأنها في ذلك شأن مختلف حركات الإسلام السياسي التي تحاول أن تجمع بين الديني والمدني لكنها تصطدم بصعوبة تحقيق ذلك وفق مبادئها وشرائعها.
النسخة الحديثة من طالبان تفشل في اختبار حماية الحقوق والحريات
الحركة المتشددة تفرض قيودا على ظهور المرأة في الإعلام وفي المسلسلات
حديث الإسلاميين عن دعم الحريات العامة ومدنية الدولة مجرد بضاعة انتخابية

تونس- عندما فتح المجال أمام أحزاب الإسلام السياسي للمشاركة في الحياة السياسية في بعض الدول العربية رفعت هذه الأحزاب شعار الاعتدال والحفاظ على مدنية الدولة والحريات العامة ليتبين بعد فترة قصيرة من الحكم أن هذه الأحزاب تتجمّل بتلك الشعارات لاستمالة دعم الغرب ولتهدئة الشارع في الداخل ولا فرق هنا بين أحزاب إسلامية "معتدلة" وأحزاب إسلامية متشددة فكلاهما من جذر واحد.

ما يعيشه الأفغان اليوم في ظل حكم طالبان من قمع وعنف وتشدد ليس بالأمر الجديد، لكنه يؤكد أن الخطاب "التصالحي" والحديث عن "الاعتدال" و"السلام" ليس سوى مادة تسويقية استنجدت بها الحركة لتحظى بقبول دولي بعد أن وصلت إلى كابول ولتخفّف من الغضب بعد استيلاءها على السلطة.

ساعات قليلة بعد إعلان السيطرة على كابول، خرج المتحدث باسم الحركة سهيل شاهين قائلا إنه مع عودة طالبان إلى السلطة بعد 20 عاما لا شيء يهدد الآثار البوذية في أفغانستان، وهي جملة أعادت الأفغان والعالم عقدين إلى الخلف حين سيطرت طالبان على أفغانستان قبل أن تسقط بتدخل أميركي  في عام 2001.

لم يكن هناك أدل على حالة الرعب التي سيطرت على الأفغان من شبح ذلك التاريخ من صور تدافع الأفغان في مطار كابول بحثا عن ركن في طائرة أو حتى التعلق بجناحها هربا من جحيم طالبان.

أمام حالة الهلع التي سادت، سارع قادة الحركة القادمين من قطر، حيث كانوا يعيشون، إلى تخليص صورتهم من أدران الماضي المتشدد وسجل حركتهم سيئ السمعة. فتحدثوا بخطاب هادئ عن السلام وحقوق النساء وأن "الشعب الأفغاني سيشاهد تغييرا إيجابيا ينعكس على حياته اليومية".

وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكومة طالبان تدعو القنوات التلفزيونية الأفغانية إلى التوقف عن بثّ مسلسلات تظهر فيها نساء

وقال أبرز المتحدثين باسم الحركة ذبيح الله مجاهد "سيُسمح للنساء بالعمل والدراسة وسيكونون "نشطين للغاية في المجتمع" لكن "في حدود مبادئ الشريعة الإسلامية". وفي هذه الاستدراك تكمن حقيقة استحالة التغيير وأن "الشريعة" وفق تفسيرات الحركة المتشددة ومراجعها هي المفصل وبالتالي فإن "الاعتدال" المتحدث عنه سيكون من وجهة نظر الحركة ووفق تفسيراتها لا من منطلق المعمول به في الشرائع الحقوقية ووفق العرف الدولي.

وهذا ما ظهر مع مرور الأيام. كلما تقوت جذور طالبان في السلطة عادت خطوة إلى الوراء في مجال الحقوق والحريات خاصة ما يتعلق بالمرأة. فمثلا في الوقت الذي أعلنت فيه الحركة أنها جمعت "أكثر من 270 مليون دولار من العائدات منذ توليها السلطة في أغسطس الماضي" وأنها "باشرت دفع رواتب الموظفين الحكوميين"، أصدرت قرارا يحدّد على ظهور المرأة في الإعلام.

قيود على وسائل الإعلام

 دعت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكومة طالبان القنوات التلفزيونية الأفغانية إلى التوقف عن بثّ مسلسلات تظهر فيها نساء. وجاء في مستند صادر عن الوزارة وموجّه لوسائل الإعلام أنه "ينبغي على قنوات التلفزيونية أن تتجنّب عرض مسلسلات رومانسية تلعب نساء فيها أدوارا".

وطلبت الوزارة أيضا أن ترتدي الصحافيات "الحجاب الإسلامي" عندما يظهرنَ على الشاشة، دون تحديد ما إذا كانت تتحدث عن وضع مجرد وشاح على الرأس وهو ما ترتديه أصلا النساء على الشاشات الأفغانية، أو ارتداء حجاب يغطي أكثر.

وأوضح المتحدث باسم الوزارة هاكيف مهاجر أن "هذه ليست قواعد، إنما هي توجيهات دينية". ودُعيت قنوات التلفزيونية الأفغانية أيضا إلى تجنّب البرامج "التي تتعارض مع القيم الإسلامية الأفغانية". وهذه المرة الثانية التي تحاول فيها الوزارة ضبط سلوكيات قنوات التلفزيونية الأفغانية منذ سيطرة حركة طالبان على السلطة.

خلال فترة حكم طالبان الأول بين 1996 و2001، كانت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المكلّفة السهر على احترام"القيم الإسلامية" من جانب الشعب، تثير الخشية بسبب أصوليتها والعقوبات التي كانت تفرضها. وكانت طالبان قد منعت التلفزيون والسينما وكل أشكال الترفيه باعتبارها غير أخلاقية. وكانت الحركة تعاقب بالجلد على الملأ الناس الذين يُضبطون بالجرم المشهود أثناء مشاهدتهم التلفزيون وتحطّم الأخير أو يكون بحوزتهم جهاز فيديو.

وبعدما طُردت من الحكم عام 2001، شهد قطاع الإعلام ازدهارًا وأُنشئت عشرات الإذاعات وقنوات التلفزيون الخاصة. ووفّرت وسائل الإعلام هذه فرص عمل جديدة للنساء اللواتي لم يكن لديهنّ الحقّ في العمل ولا في التعلّم في ظلّ حكم طالبان في التسعينات. ورغم أن الحركة عادت لتظهر نفسها أكثر اعتدالا، إلا أنها لم تسمح بعد لعدد كبير من النساء باستئناف عملهنّ في القطاع العام. وكذلك لم تُستأنف الدروس للفتيات في المدارس المتوسطة والثانوية ولا في الجامعات في غالبية مناطق البلاد. وفي الجامعات الخاصة، طلبت الحركة أن تكون الطالبات محجّبات.

سياسة التقية

ما يحدث اليوم في أفغانستان من تراجع للحريات ومن "الضوابط" التي تقيد بها حركة طالبان السلفيّة ادعاءاتها بـ"الاعتدال" واحترام الحقوق المدنية للأفغان يذكّر بوعود مشابهة لحركات الإسلام السياسي التي تسلمت الحكم إثر الربيع العربي وكيف كانت بدورها تتحدث عن احترام مدنية الدولة وعن التوافق بين الشريعة والتشريع.

الشارع التونسي بالمرصاد لكل تحركات الإسلاميين ضد علمانية الدولة
الشارع التونسي بالمرصاد لكل تحركات الإسلاميين ضد علمانية الدولة

كان هذا واضحا في المثال التونسي مع حركة النهضة التي وجدت نفسها في مرات كثيرة أمام مأزق التناقض بين النصوص القانونية وبين مبادئها وضوابطها الدينية، من ذلك موضوع تعدد الزوجات والمساواة وحرية الضمير، وغيرها من المكتسبات التي حققها التونسيون على مدى سنوات من النضال.

وخلال السنوات الأولى من حكمها وقعت النهضة في صدامات كثيرة مع الشارع التونسي الذي يقف بالمرصاد لكل محاولة للمساس بتلك الحقوق. وقد سعت النهضة إلى اللعب على وتر الديني وتقليب الشارع ضد بعضه، لكنها فشلت في تحقيق أي اختراق فقررت التوجه نحو سياسة التقية فأظهرت انفتاحا على الحريات وادعت التحول إلى حزب مدني في الوقت الذي كانت تبطن فيه العكس.

كانت أحزاب الإسلام السياسي تناور. تسوّق الحديث عن الاعتدال والحريات للغرب وللجهات المانحة الخارجية، ولاستقطاب فئة من الناخبين التي تدعم فكرة انتخاب "حزب متديّن" لكنها كانت تخشى في نفس الوقت على نمط عيشها المتحرر. وعلى الجانب الآخر، كان هناك قاعدة انتخابية أخرى لا يمكن المساس بها وكان لا بد من طمأنتها بأن الحديث عن "الاعتدال" ليس سوى بضاعة انتخابية أما الأساس فهو لـ"تطبيق الشريعة".   

في مصر كان الوضع مع الإخوان مختلفا نظرا لقصر تجربة حكمهم من جهة ولخصوصية المجتمع المصري من جهة أخرى، حيث لكن يمكن الحكم على التجربة المصرية من خلال النظر في تجرب بقية الإسلام السياسي المتشددة و"المعتدلة"، وأيضا من خلال تجربة أخرى لا تقل أهمية وهي تجربة الإسلاميين الذين يعيشون في الغرب، وبشكل كبير في أوروبا.

فشل هؤلاء، رغم أن عددا منهم ولد وعاش لفترة طويلة ولندن وباريس وبرلين وغيرها، في أن يتطبعوا بطبائع المجتمعات التي كبروا وتعلموا فيها وعوملوا فيها كمواطنين. ومن بين هؤلاء قياديون عادوا إلى تونس والقاهرة وشاركوا في الانتخابات لكن عوض أن يعملوا على استيراد الجانب الجيد والحضاري من بلاد الغرب لدعم مجتمعاتهم وتطويرها عملوا على هدم ما تحقق من مكتسبات لم يكن من السهل الوصول إليها.

وكانت دراسات عديدة كشفت أن الحركات الإسلامية غير المتطرفة هي مراكز تجنيد للمتطرفين، وأن الأصل واحد وأن جميع الإسلاميين يتفقون في الغايات والتوجهات لكن بعضهم يناور بفكرة السلمية وتجنب العنف، فيروج لخطاب معتدل في العلن ويدعم في الخفاء جماعات متشددة وعنيفة.

وكانت دراسة  قام بها معهد توني بلير للتغيير العالمي في ذروة فترة تنظيم داعش وانضمام عدد كبير من المقالين في صفوفه، منهم بريطانيين وأوروبيين، كشفت أنه ليس هناك فرق جوهري بين جماعات إسلامية غير متطرفة وأخرى متطرفة، بل بالعكس الرحلة نحو التطرف تبدأ من تلك المنظمات الإسلامية غير المتطرفة، وبالتالي لا وجود لكلمة "اعتدال" في قاموس حركات وأحزاب الإسلام السياسي بمختلف مشاربها.