هكذا وصل التونسيون إلى مرحلة الاستفتاء على الدستور
لئن شكلت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في الـ25 من يوليو/ تموز 2021 صدمة للطبقة السياسية، فإنها ما كانت لتكون كذلك لولا السياقات المحيطة بهذا المنعرج الهام في حياة التونسيين عندما تتالت وتشعبت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية التي جثمت على صدر البلاد والتي كانت تنبئ أن شيئا ما سيحدث.
وكان الرئيس التونسي أعلن مساء 25 يوليو الفائت عندما كان التونسيون يحتفلون بشكل باهت بذكرى إعلان الجمهورية، عن اتخاذ تدابير استثنائية تفعيلا للفصل 80 من دستور 2014.
واقتضت تلك التدابير بالأساس تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، فهرع عدد كبير من التونسيون إلى الشوارع معلنين مساندتهم لسعيّد ومتحدّين حظر التجول المفروض عليهم بسبب تفشي وباء كورونا.
وسبق تلك التدابير وفي نفس ذلك اليوم تظاهر العديد في محافظات تونسية ضد المنظومة القائمة ورفعوا شعارات تطالب رئيس الجمهورية بـ"إغلاق البرلمان" ووضع حد "لاستهتار الحكومة بحياة التونسيين".
وقبل ذلك التاريخ بلغ الانسداد السياسي أشده عندما انقطعت كل قنوات التواصل بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة آنذاك هشام المشيشي.
وتعطلت إدارة الشأن العام واشتد الصراع على السلطة التنفيذية التي فرض دستور 2014 أن تكون برأسين: رئاسة حكومة ورئاسة جمهورية تتنازعان الصلاحيات.
وهي وضعية عانت منها تونس لسنوات منذ تفجر أزمة مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته الحبيب الصيد ثم مع رئيس حكومته يوسف الشاهد الذي دعمته حركة النهضة ضد حزبه نداء تونس الذي عينه رئيسا للحكومة استنادا لفوزه بالانتخابات التشريعية لسنة 2014.
وكررت النهضة نفس السيناريو واستقطبت رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي اقترحه سعيّد نفسه. وانتشرت الأخبار التي تؤكد انصياع المشيشي لأوامر النهضة في تسيير عمل الحكومة.
ووصل المشهد في البرلمان درجة غير مسبوقة من إعلاء المصالح الحزبية، انطلقت من التفطن لأمر اتفاقيتين مشبوهتين مع كل من قطر وتركيا أراد رئيس البرلمان آنذاك راشد الغنوشي تمريرهما.
وتتعلق الاتفاقية الأولى بفتح مكتب لصندوق قطر للتنمية بتونس، فيما تتعلق الثانية "بالتشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات المبرمة في 2017 بين تونس وتركيا".
واتهمت المعارضة البرلمانية حزب النهضة والمتحالفين معه (قلب تونس وائتلاف الكرامة) بـ"بيع تونس" من خلال الإصرار على تمرير اتفاقية مع قطر تمس من السيادة الوطنية للبلاد.
واعتصمت المعارضة بقيادة رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي بمقر البرلمان.
وتنتقد المعارضة رئيس البرلمان بالخلط بين حزبه (النهضة) الذي يترأسه وبين عمل البرلمان.
وتم تقديم لائحة سحب ثقة ضد الغنوشي من رئاسة البرلمان أفلت منها بصعوبة بالغة ولم يسقط، رغم أن سياسيين ومتابعين اعتبروا وقتها أن الغنوشي سقط سياسيا بالفعل.
وزاد المشهد البرلماني تعقيدا عندما ارتفع منسوب العنف وأصبح النواب يتبادلون الشتائم على الملأ، والقنوات التلفزيونية تنقل خصومات النواب، خاصة تلك التي دارت بين نواب كتلة الدستوري الحر المعارضة وبين نواب كتلة ائتلاف الكرامة الموالية لحركة النهضة.
ووصل الأمر حد الاعتداء بالعنف الجسدي على عبير موسي من طرف زميلها في كتلة ائتلاف الكرامة الصحبي سمارة، لتتكرر اعتداءات رئيس الكتلة نفسه سيف الدين مخلوف اللفظية والأدبية.
وحصدت موسي تعاطف المنظمات الحقوقية المحلية والدولية. وتضامنت معها شريحة كبيرة من التونسيين على اعتبار أنها امرأة تتعرض للاعتداء من طرف رجل. ومثل تلك الأفعال تُعتبر من الكبائر في أذهان التونسيين.
المنظومة الصحية شارفت على الانهيار وموتى فيروس كورونا بالآلاف
وتابع سعيّد كما كان يتابع التونسيون خصومات النواب في وقت كانوا فيه مدعوين لدرس حالة البلاد التي تفشى فيها الوباء بشكل لافت.
ولم تكن الحكومة ولا البرلمان يعملان شيئا يُذكر عندما كان التونسيون يموتون بالمئات يوميا بسبب انتشار وباء كورونا مع بطء واضح في عمليات التلقيح.
وأعلنت وزارة الصحة أن عدد المتوفين بكورونا في تلك الفترة تجاوز الـ25 ألفا، فضلا عن عدد الإصابات الضخم وانهيار المنظومة الصحية تقريبا.
ولم تقدر السلطات آنذاك إلا على إغلاق البلاد الأمر الذي زاد في تعقيد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها التونسيون.
وأحال الإغلاق ومنع التجول الآلاف على البطالة وبدأت بعض المواد الغذائية الأساسية تُفقد من الأسواق واستشرت المضاربات التجارية وعمليات الاحتكار والتهريب.
وأفاد المعهد الوطني للإحصاء في آذار/ مايو 2021 أن الاقتصاد التونسي انكمش في الربع الأول من العام نفسه بنسبة 3 بالمئة.
وأضاف المعهد أن البطالة وصلت معدلات لم تصلها تونس خلال 11 عاما مما أدى إلى عجز قياسي في الميزانية اقترب من 18 بالمئة سنة 2020.
وحاولت حركة النهضة الإسلامية وباقي مكونات المنظومة السياسية السابقة التصدي لقرارات سعيّد التي تبعتها مراسيم عديدة تقضي بحل البرلمان وحل مجلس القضاء وتعطيل العمل بأغلب فصول دستور 2014 ووضع خارطة طريق عبر المرسوم 117 الصادر في أيلول/ سبتمبر 2021 والذي اعتبره خبراء بمثابة دستور صغير للبلاد في انتظار دستور الجمهورية الجديدة الذي يُستفتى فيه التونسيون الإثنين الـ25 من يوليو.
ويعتقد البعض أنهم لا يبالغون عندما يعتبرون أن جزءا كبيرا من مستقبل تونس يتوقف على نتيجة هذا الاستفتاء.