
عفاف سليم تخترق 'جدار' القصاص الأزرق
تشكل تجربة الشاعر جمال القصاص واحدة من أبرز التجارب الشعرية التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي، واستطاعت على مدار أكثر من أربعين عاما مواصلة التمرد على قصيدتها والقصيدة السائد، حتى يمكن القول أنها تعد نسيجا منفردا ومتفردا بجماليات روحها ولغتها وصورها، نسيج يقوم على انغماس الذات في وجودها الحياتي المعاش، واشتباك رؤاها مع العالم المحيط وما يضج به من وقائع وأحداث وتفاصيل صغرى وكبرى.
هذه التجربة كانت محورا أطروحة الباحثة عفاف أبوزيد سليم إبراهيم "شعر جمال القصاص.. دراسة أسلوبية" التي نالت بها درجة الماجستير في الدراسات البلاغية والنقدية، وحاولت فيها الوقوف على أهم الخصائص الأسلوبية التي تميز بها شعر القصاص، والكشف عما بداخله من أبعاد نفسية وجمالية ودلالية.
تقول الباحثة "إن إنشاء النص حالة خاصة لفعل خلاق يمتاز بالقصدية، وهو اختيار لسمات لغوية معينة من بين الإمكانات التعبيرية المتعددة فى اللغة؛ قصدًا للتعبير عن موقف بعينه، أو معنى معين. هذه الاختيارات أو الانتقاءات التى يقوم بها الكاتب أو المرسِل تمثل قراراته الاستراتيجية التى تميز أسلوبه عن غيره؛ ومن ثمَّ فالأدبُ تنوعٌ وتفردٌ أسلوبيّ، يعتمد على الوعى والاختيار والانتقاء. والأديب لا يكون أديبًا إلا إذا تفرد بذلك، ثم لا تكون العباراتُ معبرة إلا إذا جاءت انعكاسًا لصاحبها. وكلُّ أسلوب صورةٌ خاصة بصاحبه، تظهر طريقة تفكيره، وكيفية رؤيته للأشياء، وطبيعة انفعالاته بها، ومن ثمَّ التعبير عنها. وقد أولت الدراسات الحديثة القصدية مزيدًا من الاهتمام والتفصيل؛ نظرًا لأهمية الوعي فى اختيار المؤلف للمواد التى يوظفها أسلوبيًّا. والشاعر"جمال القصاص" من هؤلاء المبدعين الذين تمثلوا القيم الأسلوبية في إبداعاتهم؛ فجاء إنتاجه الشعري جامعًا بين نوعين منها؛ الأولى"تعبيرية" وتتكون من العناصر الاجتماعية والنفسية اللازمة للتعبير، والأخرى نتاجٌ للقيم الجمالية والأخلاقية والتربوية للصياغة التعبيرية فهي واعيةٌ ومقصودة شعوريًّا فجاء أسلوبه ناجمًا عنها.
وتلفت إلى أن اختيارها لديوان "جدار أزرق" للقصاص كونه يحمل وحدةً دلالية كلية تتمثل فى أنها تتحدث عن قضية "الشعر والحياة"، مشتملًا على اثنتي عشرة قصيدة تعبر عن الواقع والحياة؛ مظهرًا من خلالها القيم الأسلوبية الطباعية، والقيم الأسلوبية التعبيرية.
وتوضح الباحثة "وقع الاختيار على ديوان جدار أزرق مسارًا للتطبيق؛ وذلك لما يتمتع به من خصائص جعلته شمس تلك الكوكبة الشعرية، سواء أكانت خصائصةأسلوبية أم كانت خاصة ببيئة ميلاد نصوصه؛ حيث يحيل عنوانهإلى الحائط الافتراضي "فيس بوك"، فهو البيئة التي نشأت فيها نصوص الديوان، وقد كتبها القصاص في شكل ومضات شعرية خاطفة على صفحته الشخصية على جدار "فيس بوك"، وبالتالي جرى فعل تلقيها، بُعَيد مرحلة الكتابة، جزئيًّا وآنيًّا، فصارت عملية الإنتاج أقرب ما تكون لعملية التلقي في لحظة صيرورتها. ومن هنا جاءت أهمية الدراسة في تناولها لديوان "جدار أزرق"؛ فمن جهة لكونه إبداعًا شعريًا متميزًا في لغته وأسلوبه, وحقلًا بكرًا يحمل قيمًا نقدية وبلاغية لا تتضح إلا بفك رموزه وشفراته النصية والسياقية، ونظرًا لندرة من تناول الدراسة من جهة ثانية.
وتؤكد أن توظيف ظاهرة الحذف لدى القصاص شكلت عنصرًا فاعلًا من عناصر الانزياح التركيبي في النص الشعري، قام بهدم التراتبية المألوفة لنظام الجملة المعيارية، وخلق لغة جديدة، كان لها العامل الحاسم في إثراء النص وزيادة بلاغته. كما شكلت ظاهرة الحذف بعدًا جماليًّا وعنصرًا إبداعيًّا أعلى من قيمة النص الشعري؛ لما نتج عن توظيفه داخل النصوص من منح القارئ فرصة المشاركة في عملية إنتاج النص والتعمق في فضاءاته؛ لتصيد المحذوف. أيضا كانت الفجوات النصية في الديوان عنصرًا من العناصر المولدة للمعاني والدلالات، حيث مثلت الهندسة البصرية للسواد والبياض على فضاء الصفحة، لغة صامتة، غير منطوقة، كان لها قيمة أدبية وفنية، بدأت فعاليتها بعدما انتهت لغة النص المادية المكتوب بها.

وتلفت إلى أن تعدد مظاهر التناص داخل ديوان "جدار أزرق"، فتعالق الشاعر بداخله مع نصوص أدبية، عربية وعالمية، وجاءت السياقات التي استحضر فيها القصاص النص الديني ممثلة لحوارية بين الشاعر والقصيدة، لذلك كانت قدسية النص الديني منفذًا للولوج لأغوار الذات الشاعرة داخل عالم الشعر المتخيل.مما ظهر جليًّا أيضا وبشكل خاص في "جدار أزرق"، الإحالة إلى العديد من الأفكار والأعمال الفلسفية والأدبية من خلال توظيف الشاعر لرموز وشخصيات الفلاسفة والشعراء، ولم يأت توظيفها في النص مجانيًّا، ولا من قبيل الفذلكة الشعرية، وإنما شكل استدعاء كل شخصية من هؤلاء الشخصيات مسلكًا جديدًا من مسالك المعنى، فضًلا عن كونها شاركت في صناعة الدلالة والرؤية، وأيضًا، في كتابة النص. ولذلك كان في استدعاء هذه الشخصيات دورًا في ثراء وتكثيف الخطاب الشعري، وفي انفتاح القصيدة على نوافذ غنية وخصبة من التخييل والتأويل.
وترى الباحثة أن الصورة الشعرية عند القصاص اكتسبت مكانة فريدة، جعلتها تنهض بالتعبير عن عواطفه وانفعالاته، وتعكس رؤيته وأفكاره وثقافته، مع إعطاء قياسًا لمدى براعة الشاعر في خلق عالم جديد من الصور في ذهن القارئ، وكانت فاعلية هذا العالم الجديد تكمن في وصف إدراكات الشاعر وانطباعاته عن نفسه وعن العالم من حوله، فضلًا عن منح الرؤية الشعرية بعدًا تأويليًّا عميقًا. وقد أسهم توظيف الصورة الأسطورية عنده في "جدار أزرق" في صياغة التجربة الشعرية، والرؤية الفنية، في قالب رمزي يتضمن طاقة هائلة من الدلالات والإيحاءات التي كان لها دورٌ في خدمة تجربة القصاص الشعرية، كما كانت خير عون مكن الشاعر من صياغة رؤياه بطريقة غامضة عن طريق الإيحاء، وبعيدًا عن التقريرية والمباشرة في التعبير.
وتلاحظ أن الحواس كانت إحدى أهم المرتكزات الجمالية في شعر القصاص، لذلك استحالت الصورة الحسية وشمًا في جسد قصائد "جدار أزرق"، فلا يكاد يجد القارئ صورة تنفرد بحاسة واحدة، وإنما هناك وحيث يوجد جدار أزرق يوجد دائمًا تضافرٌ وتناغمٌ بين أكثر من حاسة في تشكيل الصورة الشعرية. ومن جانب آخر كان للحوار داخل نصوص القصاص اهتمام خاص؛ حيث تضمنت جميع قصائد "جدار أزرق" حوارًا ما، واللافت للانتباه أن الحوار- في شعر القصاص- مغموسٌ بالدراما، وعلى وجه التحديد، الدراما المسرحية، لذلك تحولت نصوص الديوان في بعض مواضعها إلى خشبة مسرح، تبادلت عليها الرموز والدلالات والعلامات والشخوص، الأدوار والأقنعة.
وتكشف الباحثة أن القصاص أفاد من السينما، خاصة بنية المشهد واللقطة والمونتاج السينمائي، وكذلك من الفن التشكيلي وعلاقة الكم المفتوح في اللوحة والنص الشعري، واللعب على سيكولوجية اللون والرائحة والكتلة والفراغ، وهو ما يوسع من أفق النص الشعري بصريًّا. أيضًا، أفاد القصاص من إيقاع المسرح، في بناء الدراما ونموها حتى تصل إلى ذروة الصراع في النص. وتم كل ذلك في علاقة تجاور وتقاطع، ومسارات بينية، تناص عبرها الشاعر مع نفسه وتراث الآخر في النص الشعري.
وقد تمخّضت الدراسة عن عدد من نتائج تتمثل في:
أولا اتخذ القصاص داخل "جدار أزرق" معجمًا شعريًّا اتسم بالتجدد والانفتاح الدائم على الطبيعة، حتى التعامل مع المرأة بتحولاتها عاطفيًّا واجتماعيًّا كان انفتاحًا خاصًا على الطبيعة، وكأن المرأة مشهد دائم التجدد فيها. كما كانت حدوسات المعرفة والفكر والفلسفة جزءًا من قاموس القصاص الشعري، تعامل من خلالها مع الذات والشعر والحياة.
ثانيا جمع الشاعر في ديوانه بين اللغة اليومية المتداولة واللغة المجازية الجزلة، إلا أن وضوح ألفاظه في جدار أزرق كان سمة ميزته عن الدواوين السابقة للشاعر؛ حيث اتسمت بالغموض؛ نتيجة لميول القصاص للنزعة السريالية في بناء الصورة الشعرية.
ثالثا أدت موتيفات الديوان في الأغلب الأعم دلالة مخالفة لدلالتها السابقة داخل أشعار القصاص، وأرجعت الدراسة ذلك لخدمة الروح المتمردة التي طغت على جدار أزرق، وخلق حالة من الرفض للواقع.
رابعا تنوعت الجمل الخبرية في الديوان ما بين المثبتة والمنفية، وهي في تراوحها بين النفي والإثبات قد كشفت عن نفسية الشاعر، وكان لها دور في تجسيد أفكاره ومشاعره. وقد مثلت الجملة الخبرية المنفية سمة أسلوبية بارزة فيه، وكان لها الحضور الأكبر دون غيرها من الجمل، وقد كشفت إحصائية الدراسة للجملة المنفية، أنها عبرت عن رؤية شعرية رافضة للواقع وتطمح في كل ما هو جديد وجميل.
خامسا استندت رؤية القصاص في الديوان على طرح الأسئلة وتفجيرها، بصرف النظر عن أي إجابات محتملة، والتي غالبًا ما تكون ناقصة، ولذلك كشف تنوع الإنشاء الطلبي ما بين (الأمر، النهي، النداء، التمني، الاستفهام) عن وعي بأهمية شعرية الأفكار. كما لم يعمد القصاص بديوانه إلى خرق النظم المألوفة بالتركيب والعدول عنه إلى تركيب آخر، إلا لأبعاد فنية ودلالية حددها السياق وأوضحها، فتوظيفه لظاهرة الالتفات، وتراوحه بين الضمائر، كان له الدور الرئيس في إنتاج النص وتشكيل صياغته ومعناه، وذلك من خلال انتهاك النسق المفترض لسير الكلام، وهو ما منح النص تعددًا في أصواته المتفاعلة، والتي كونت بدورها شبكة من العلاقات التصويرية والمعنوية، أعلت من كفاءة النص، ونأت به عن الرتابة والملل. كما كشف توظيف أسلوب الالتفات عن الصراع النفسي والقلق الشعوري، وعن خصيصة من أهم خصائص شعراء السبعينيات وهي: (الانشطار الذاتي)، وشكل هذا الانشطار سمة أسلوبية بارزة في جدار أزرق، حيث جسدت كثير من نصوصه العلاقة الجدلية بين الذات الشاعرة والذوات المنشطرة عنها.
سادسا شكل التكرار محورًا جماليًّا ودلاليًّا بارزًا في الخطاب الشعري عند القصاص، وجاء توظيفه في جدار أزرق على مستويات عدة، من الحرف والكلمة ثم الجملة والعبارة، وذلك لأغراض عدة، أضاءها السياق الذي ورد فيه. وكان للتكرار أثر بالغ في الكشف عن مضمرات الشاعر النفسية وأحاسيسه الشعورية، فضلًا عن اقتفاء التكرار لأثر المعنى والدلالة التي أوحى بها السياق.