نشوان دماح يبحث 'اللغز الأكبر' للفظ الجلالة الرحمن

كتاب الشاعر والباحث اليمني يتتبع لفظ الجلالة في ثلاثة أجزاء.

يبدو لفظ "الرحمن" في القرآن الكريم كيانًا مستقلًا قائمًا بذاته وبناءً معرفيًا ثابتًا لا يمكن لشكله أن يتغير بأي حال من الأحوال في هذا السياق أو ذاك، كأن يؤتى به منكّرًا مثلًا أو مضافًا إليه اسم ما، فضلا عما يؤديه هذا الاسم من دلالة شمولية لا تنحصر بمعنى من المعاني على الإطلاق، مهما أراد له اللغويون والمفسرون ذلك.

وهنا في هذا الكتاب "الرحمن.. اللغز الأكبر" لمؤلفه الشاعر والباحث اليمني نشوان محسن دماج، والذي جاء في ثلاثة أجزاء، يتتبع لفظ الجلالة حيث بحث في الجزء الأول المسألة اللغوية عمومًا، مسلطا الضوء على جوانب مهمة من حقيقة الاسم الرحمن الذي لا يمكن إخضاعه لأي من قواعد اللغة واشتقاقاتها وتصريفاتها. توقف في الجزء الثاني على تاريخية الاسم، سواء ضمن تاريخية الرسالة المحمدية ذاتها، أم ضمن ما سبق تلك الرسالة من امتداد وحداني.

وفي الجزء الثالث تطرق لواحدة من أكثر المسائل الشائكة والمعقدة فيما يتعلق بالصراع الديني في اليمن قبل الإسلام، تتبع الخيوط التي وراء عدائية قريش للاسم ولماذا حتى بعد إسلامها حاولت النيل منه، سواء عبر جعله من جملة الصفات وعدم اعتباره اسمًا محضًا، أم عبر إسقاط البسملة من قرآنيتها واختراع قصة "رحمان اليمامة" و"رحمان اليمن".

يقول دماج "إذا كان من مقتضيات أي بحث أو دراسة تتناول موضوعًا معينًا، هو أن يتم الوقوف أولًا على جذريته اللغوية، فإن مفردة الرحمن إشكاليتها الأساسية، من وجهة نظري، هي في اللغة؛ أي في ذلك التجذير الذي يراد له أن يجعل منها اسمًا مشتقًا من جذرٍ لغويٍّ ما وعلى وزن معين؛ بحيث إن ذلك الجذر وذلك الوزن يكونان هما اللذان يمنحانها معناها، كما يمنحان غيرها من الاشتقاقات.

فعندما أبدأ بحثي وفق الطريقة المتبعة، أي في تعريف "الرحمن" لغةً، أكون قد أصبت البحث برمته في مقتل؛ وذلك لأنه في الأساس قائم ضد التعريف اللغوي وثورةٌ عليه من كافة الأوجه. وما حدث لمفهوم هذه المفردة من تأويلات اعتباطية كان أساسه هو ذلك التعريف. فإذا كان التعريف اللغوي لموضوع ما يجعلك تطمئن إلى أنك قد وضعت اللبنة الأولى الصحيحة والضرورية لنهوض البناء، فإن اللبنة الأولى التي أريد وضعها مع مفردة "الرحمن" هي أن أهدم ما بَنَتْه اللغة، وأن أصرخ في وجهها من أول وهلة: أنا أتهمك أيتها اللغة، وأتهم تعريفك لـ"الرحمن" ولا أعترف به، وهو إن تناولتُه هنا، فلِنقْضِه لا للبناء عليه.

يضيف "ربما سأسمع لأصنام اللغة ضجةً حينها، وربما سيفزعني صوت تداعيات قويٌّ في أذنيّ فيرتعش له صوتي، وأبدأ بالتفكير بالتراجع وسحب ما كنت قد قلته. لكن أنا على يقين من أن صوت التداعيات ذاك إنما هو لأولئك "الأصنام"، من الفراهيدي إلى سيبويه إلى ابن جني إلى السامرائي إلى مدرس اللغة العربية في المدرسة، آخذين معهم بطبيعة الحال أصنامًا أخرى اسمها المفسرون؛ مع احترامي الشديد لشخوص هؤلاء وأولئك على حد سواء، فأنا فعلًا أحترمهم رغمًا عن أنفي، علىالأقل تقديرًا لجهودهم. ولكنني لا أحترم تلك الحالة التصنيمية التي صنعها لهم أتباع وأتباع بغير علم منهم ربما ولا رضا، فأتينا نحن بدورنا كأنما لنؤكد على كون أولئك الأعلام أصنامًا بالفعل؛ لكن دون أن ندري بأننا نعبدهم، لا يخيفنك صوت سيبويه ولا صوت الطبري؛ فكلاهما بشر مثلك.

ولا يهولنك أن تخطئ أيًا منهما أو من غيرهما في مسألة تراها أنت خلافًا لما رأوها هم. فلك الحق في أن تطرح فكرتك وحجتك دونما ترهيب من أحد لاسيما منك أنت. فلا أسوأ من رهاب الأفكار وإرهاب المرء نفسه بنفسه. وما ذاك في رأيي إلا لأننا اعتدنا ألا ننتج أفكارًا بل خوفًا، ولا أن نأتي بآراء من تلقاء أنفسنا، بل نأتي بكل شيء معلبًا جاهزًا فنضعه في أذهاننا مثلما يحدث أن نضعه في بطوننا.

ويرى دماج أنه عند مقارنته لفظ "الرحمن" مع عموم الأسماء/النعوت، نجد أن لـ"الرحمن" وضعًا خاصًا في القرآن الكريم يجعله خارجًا عن كونه ضمن تلك الأوصاف، ويجعل منه المفردة الوحيدة التي تضاهي مفردة (الله) في كونه هو أيضًا يمكن أن يتصدر السياق القرآني بمفرده والتعبير عن الذات الإلهية بمفهومها المطلق، دون الحاجة إلى ما يدعم دلالته.فهاتان المفردتان "الله" و"الرحمن"، مثلما يبدو من خلال النص القرآني، هما الوحيدتان اللتان يمكن لأي منهما أن تأتي مكتفية بذاتها في السياق القرآني، دون الحاجة إلى ما يدعم دلالتها في هذا السياق أو ذاك كتعبير كلي شمولي عن الذات الإلهية، فعندما أقول "الله" أو أقول "الرحمن" أكون قد قصدت به المعنى المشير إلى الذات الإلهية بمفهومها المطلق الذي تنتفي عنده كل صفة من الصفات.

ويشير إلى أننا نجد في عدد من التراكيب القرآنية من نحو: "وقالوا اتخذ الله ولدا"، "أعوذ بالله"، "عذاب من الله"، "قل هو الله"، "ما يمسكهن إلا الله"، "عند الله"، "عباد الله"، "آيات الله"، "لو شاء الله".. إلخ، ما يماثلها مع مفردة الرحمن: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا"، "أعوذ بالرحمن"، "عذاب من الرحمن"، "قل هو الرحمن"، "ما يمسكهن إلا الرحمن"، "عند الرحمن"، "عباد الرحمن"، "آيات الرحمن"، "لو شاء الرحمن"؛ وهو ما لا نجده مع بقية الأسماء/النعوت.والمتتبع لكافة المواضع، التي ورد فيها الاسم "الرحمن" في القرآن الكريم، سيجد بقليل من التأمل أن المفهوم الذي يؤديه هذا الاسم في عموم تلك السياقات هو مفهوم مجرد يعبر عن الذات الإلهية بمطلقيتها، وليس بأي صفة من صفاتها.أي إنك لن تجد موضعًا واحدًا من تلك المواضع يكون فيه السياق متعلقًا بمعنى من المعاني على الإطلاق؛ فكيف له أن يحتمل معنى الرحمة إذن، وهو الاسم الجامع القائم بمفرده والشامل بدلالته؟! ومن شاء فليعد إلى تلك المواضع وليتمعن هل يمكن للسياق أو للاسم "الرحمن" فيه أن يكون متعلقًا بهذا المعنى أو ذاك، أم أن دلالته في كل السياقات تكون شمولية مطلقة.

ويوضح دماج "يخبرنا القرآن بأن إعادة طرح الاسم "الرحمن" من قبل النبي لقي معارضة شديدة عند المشركين، لدرجة أنهم أنكروا أن يكونوا على علم بالمفردة من الأساس، "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن"(الفرقان: 60)، وفي آية أخرى: "وهم يكفرون بالرحمن"(الرعد: 30)، وفي أخرى "وهم بذكر الرحمن هم كافرون"(الأنبياء: 36). وإذا اعتبرنا أن في ذلك تسلسلًا ما، من حيث طرح الاسم مرة ثم ثانية ثم ثالثة ورابعة وخامسة ثم لعشرات المرات، فإن هذا يعني أنه بقدر الرفض والنفور اللذين قوبل بهما ذلك الاسم من قبل الذهنية الشركية كان ثمة إصرار من قبل النبي على طرحه وتكريسه كمفهوم وحداني يعبر عن الذات الإلهية بمفهومها المطلق، مثله مثل الاسم "الله". هذا الإصرار من قبل النبي ورسالته على طرح الاسمين معًا يتجلى في الآية (110) من سورة الإسراء: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى"، لكنه أكثر تجليًا في البسملة، باعتبارها الافتتاحية الثابتة ليس فقط لسور القرآن، بل ولكل فعل وعمل نبوي.

ويؤكد أن هذا التكريس شكل إزعاجًا كبيرًا للذهنية الشركية التي عصفت بها الدعوة المحمدية، لدرجة أن عمر، وقد أخذ الصحيفة من يد أخته وشرع يقرأ ما فيها، بحسب الروايات التي تذكر قصة إسلامه، بمجرد أن قرأت عيناه "بسم الله الرحمن الرحيم" رمى بالصحيفة رأسًا، واستغرق الأمر وقتًا منه حتى عاد إلى رشده. بل وثمة رواية تقول بأنه تساءل حينها: "من أي شيء اشتق؟!"، ليبقى ذلك التساؤل على عواهنه في بطون الكتب دون أن يُعرف ما الذي قصده عمر منه، بينما قد لا يكون لذلك من معنى إلا أن الضمير هنا عائد إلى الاسم "الرحمن"، سواء في البسملة أم في آية "الرحمن على العرش استوى"، باعتبار أن الآيات المكتوبة في تلك الصحيفة كانت من سورة طه، كما تقول بعض الروايات.

وهناك روايات أخرى تقول بأن تلك الآيات كانت من سورة الحديد، مع أن المتعارف عليه عند هو أن سورة الحديد مدنية.

 لكن الروايات تؤكد أن النفور من قِبَل عمر كان من البسملة لا غير، وبمعنى أخص: من ذلك الاسم الذي فيها: الرحمن، باعتبار أن الجو العام حينها، أي وقت إسلام عمر، كان مشحونًا بالموقف الرافض والنافر من هذا الاسم، كما تؤكد ذلك بعض الآيات نحو "وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي"، "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا". وكما تؤكده أيضًا بعض الشواهد التي ذكرتها كتب السيرة كأسباب نزول لتلك الآيات.