عدالة لا يمكن تحقيقها في 'القاضي وجلاده'
"القاضي وجلاده" هو العمل الأشهر بين روايات الكاتب السويسري فريدريش دورنمات "البوليسية" التي تسخر في الحقيقة من هذا النمط الروائي، ففيها" يرتقي دورنمات بالقصة البوليسية "الخفيفة" إلى منزلة الأدب "الثقيل"، أو يهبط بالفلسفة كي تكون قصة مشوقة، ويبدع الفن حيث لا يتوقعه أحد.
تدور أحداث "القاضي وجلاده" في نوفمبر/تشرين الاول من العام 1948 وعلى مدار ستة أيام، هناك جريمة قتل ضابط، عثر عليه ميتًا في سيارته على جانب طريق ريفي، يتم التحقيق فيها، تشير التحريات المبدئية لشخصية ذات نفوذ تقف وراء القتل للتغطية على نشاط مشبوه كاد أن يكشفه الضابط القتيل، لكن هذه النقطة تدفع برلماني ومسؤول سابق نافذ في الشرطة للتدخل وتحويل مسار القضية بعيدا عن الشخصية ذات النفوذ، بدعوى "سياسة الدولة العليا". وتتوالى الأحداث الشيقة في تتابع ملهث. ليكتشف القارئ في نهاية من كان الجاني. ومع ذلك، يمكن أيضًا فهم الرواية على أنه نقد للرواية البوليسية وأيضًا للإجرام، لأن التحقيقات خاطئة من البداية: فالمحقق المخضرم ورئيس القتيل والمنوط به متابعة التحقيق يعرف بالفعل كل الخلفية والجاني يعرفه قريبًا؛ لكنه يحجب المعلومات، إنه يتابع التحقيق فقط لتحقيق "عدالة" لا يمكن تحقيقها من خلال الوسائل الجنائية والقانونية.
"القاضي وجلاده" التي لا تزال توزع وتلقى إقبالا جماهيريا حتى اليوم، يكشف دورنمات فيها إلى أي مدى يمكن أن يختلف القانون والعدالة. بعد فترة طويلة من الاضطهاد، نجح بطل الرواية، المفتش بارلاخ، أخيرا في هزيمة خصمه الإجرامي عن طريق خداع جريمة قتل والتلاعب بها والتستر عليها. يحقق المفوض الرصين العدالة، ولكن فقط من خلال الاستهزاء بالقانون.
الرواية تعد العمل الرابع الذي يترجمه سمير جريس لدورنمات بعد أن ترجمت له رواية "الوعد"، والمجموعتين القصصيتين "السقوط" و"العطل"، وقد صدرت أخيرا عن دار الكتب خان.. يقول جريس "أحبُ أعمال دورنمات. أحب فلسفته، وخياله، وسخريته اللاذعة، وقدرته على تناول أسئلة الإنسان الكبرى بأسلوب قصصي مشوق. وأحبُ هوسه بموضوعين لا يفارقانه في معظم أعماله: العدالة وعجز القانون عن تحقيقها، وأثر المصادفة على حياة الإنسان. إنه كاتب حسي وعقلي في آن واحد، وهو نسيج وحده في الأدب الألماني (اللغة) الحديث والمعاصر ـ ولهذا لا أملّ العودة إليه مرة بعد أخرى، وهو بالتأكيد أحد الذين خسرتهم جائزة نوبل.
ويضيف "كيف يستطيع الفنان أن يبدع في عالم متخم بالثقافة؟" ـ هكذا تساءل دورنمات في مطلع حياته الأدبية، وكانت إجابته: "لعل أفضل شيء أن يكتب روايات بوليسية، وأن يبدع الفن حيث لا يتوقعه أحد. على الأدب أن يغدو خفيفا، وألا يزن شيئاً على ميزان النقد الأدبي المعاصر، فهذا هو السبيل الوحيد كي يكتسب وزناً من جديد".
ويلفت جريس إلى أنه من الطريف معرفة أن "دورنمات لم يختر الرواية البوليسية طواعية، بل لجأ إليها تحت وطأة الحاجة إلى المال. آنذاك كانت زوجته الحامل ترقد في المستشفى، ثم عانى هو من نقص حاد في نسبة السكر في الدم، فنُقل هو أيضاً للمستشفى. كانت تكاليف العلاج باهظة، لذلك راح يتصل بعدد من الناشرين عارضاً عليهم مشروعات قصصية مختلفة لم يكن كتب منها حرفاً، وذلك حتى يدفعوا له عربوناً يستطيع به أن يسدد بعض ديونه. وهو ما حدث. وعندما تعاقد على نشر روايته الأولى "القاضي وجلاده" مسلسلة، حصل الكاتب الشاب على 500 فرنك سويسري. وعندما عاد بالنقود إلى المنزل، ظنت زوجته أنه سرق المال!.
فصل من الرواية
غارقا في التفكير تناول برلاخ طعامه في "دو تياتر"، وليس كما اعتاد في مطعم "شميدشتوبه". باهتمام راح يقلب ويقرأ في الملف الذي أحضره معه من حجرة شميد، وبعد أن قام بتمشية قصيرة مرّ خلالها على القصر الاتحادي، عاد في الثانية إلى مكتبه حيث وجد في انتظاره خبر وصول جثة شميد من بيل. تخلى عن زيارة مرؤوسه السابق، فهو لا يحب الموتى، ولذلك يتركهم في الغالب في سلام. كان يود أن يتخلى أيضا عن زيارة لوتس، لكن كان عليه أن ينصاع لطلب رئيسه. أغلق درج مكتبه بإحكام على ملف شميد دون أن يقلب فيه مرة ثانية، ثم أشعل سيجارا وسار إلى مكتب لوتس، رغم علمه أن الأخير يغضب في كل مرة عندما يستمتع العجوز بحرية تدخين سيجاره. لم يجرؤ لوتس على توجيه ملاحظة له إلا مرة واحد قبل سنوات، لكن برلاخ أشاح محتقرا بيده وقال إنه كان يخدم طوال عشر سنوات في تركيا وكان دائما يدخن في حجرات رؤسائه في القسطنطينية،. كان هذا الرد مفحما، إذ لم يكن من الممكن قط فحص صحته.
استقبل الدكتور لوتسيوس لوتس المفتشَ برلاخ بعصبية، فحسب رأيه لم تتخذ أي خطوات في القضية بعد. أشار له بالجلوس على "فوتيه" مريح بالقرب من مكتبه. سأله برلاخ:
ـ أخبار جديدة من بيل؟
ـ ليس بعد.
ـ شيء غريب، مع أنهم في العادة يعملون كالمجانين.
جلس برلاخ وألقى نظرة عابرة على لوحات ترافيليت المعلقة على الجدران، رسومات ملونة من الجبهة تصور جنودا يسيرون من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار تحت راية ضخمة خفاقة، مرة برفقة جنرال، ومرة بدون جنرال.
بدأ لوتس الكلام قائلا:
ـ إننا نرى مرة أخرى، وبخوف يتجدد ويتزايد، المستوى البدائي للغاية لمكافحة الجريمة في هذه البلاد. يعلم الرب أنني قد اعتدتُ أشياء عديدة في هذا الكانتون، لكن أن يُنظر إلى مقتل نقيب في الشرطة على أنه أمر طبيعي، فهذا يلقي ضوءا فظيعا على القدرة المهنية لشرطة القرية لدينا. إنني ما زلت أشعر بالصدمة.
أجاب برلاخ:
ـ اهدأ قليلا يا دكتور لوتس. إن شرطة القرية قادرة على أداء واجبها مثل شرطة شيكاغو، وسنتوصل إلى معرفة قاتل شميد.
ـ هل تشتبه في شخص معين يا حضرة المفتش برلاخ؟
نظر برلاخ طويلا إلى لوتس، ثم قال في النهاية:
- نعم، أشتبه في شخص معين يا دكتور لوتس.
ـ من؟
ـ لا أستطيع أن أقول لك الآن.
قال لوتس:
ـ هذا أمر شيق. أعرف أيها المفتش أنك مستعد دائما لتجاوز آخر ما توصلت إليه العلوم الجنائية، ثم تجميل تجاوزك. ولكن لا تنسى أن الزمن يتطور، ولن يتوقف حتى أمام أشهر المحققين الجنائيين. لقد رأيت جرائم في نيويورك وشيكاغو لن تستطيع تخيل وقوعها في مدينتنا الحبيبة برن. ولكن الآن قُتل نقيب في الشرطة، وهذه علامة أكيدة على أن صرح الأمن العام هنا قد بدأ يتصدع، ومعناه أن علينا التحرك بلا هوادة.
أجابه برلاخ:
ـ بالتأكيد، وهذا ما أفعله أيضا.
"حسن"، قال لوتس ثم سعل. ومن الجدار سُمعت تكات ساعة.
وضع برلاخ كفه اليسرى برفق على معدته ثم ضغط بيده اليمنى سيجاره في المنفضة التي وضعها لوتس أمامه. ثم قال له إنه منذ فترة طويلة لم يعد يتمتع بكامل صحته، الطبيب على الأقل يبدي امتعاضه عندما يرى حالته، وإنه يعاني كثيرا من متاعب في المعدة، ولهذا يطلب من الدكتور لوتس أن يعين نائبا له في قضية قتل شميد، ليقوم بالتحريات الأساسية في القضية، في حين يتابعها برلاخ من مكتبه. وافق لوتس، وسأله:
ـ وفي مَن تفكر كنائب لك؟
ـ تشانتس. صحيح أنه ما زال في إجازة، ولكن من الممكن استدعاءه.
ـ موافق. تشانتس رجل يجتهد دائما لمواكبة أحدث ما توصلت إليه العلوم الجنائية.
عندئذ أعطى ظهره لبرلاخ وراح يتأمل من النافذة ساحة "فايزنهاوس" التي ازدحمت بالأطفال. وفجأة اجتاحته رغبة ضارية في مجادلة برلاخ بشأن قيمة العلوم الجنائية الحديثة. استدار لوتس، غير أن برلاخ كان قد انصرف.
قرابة الساعة الخامسة قرر برلاخ أن يسافر في اليوم نفسه إلى تفان لمعاينة مسرح الجريمة. اصطحب بلاتر معه، وهو شرطي طويل ومترهل البدن لا يتحدث أبدا، ولهذا كان برلاخ يحبه. قاد الشرطي السيارة أيضا. في تفان استقبلهما كَلنين بوجه عنيد إذ كان يتوقع اللوم. غير أن المفتش كان لطيفا، وصافح كَلنين قائلا إنه سعيد بالتعرف إلى رجل يستطيع التفكير المستقل. شعر كَلنين بالفخر إزاء هذه الكلمات، رغم أنه لم يكن يعرف تماما ماذا يعني العجوز بها. قاد برلاخ إلى الطريق الصاعد تجاه تسنبرج، حيث وقعت الجريمة. بخطى ثقيلة سار بلاتر خلفهما، متذمرا لأنهم ساروا على الأقدام. تعجب برلاخ من اسم المكان ذي النطق الفرنسي: لومبوان. قال كَلنين شارحا:
ـ اسمه بالألمانية لاملينجن.
فرد برلاخ:
ـ آه ... هذا أجمل.
وصلا إلى مكان وقوع الجريمة. كان الطريق المواجه لتفان يقع إلى يمينهم، يحيط به سور.
ـ أين كانت السيارة واقفة يا كَلنين؟
"هنا"، قال الشرطي مشيرا إلى الشارع، "في منتصف الشارع تقريبا"، ثم أضاف لأن برلاخ لم يكد ينظر حيث أشار:
ـ ربما كان الأفضل أن أترك السيارة هنا وبداخلها القتيل.
قال برلاخ متطلعا إلى جبال يورا:
ـ لماذا؟ المرء ينقل الموتى بأقصى سرعة ممكنة، إذ لم يعد لهم مكان بيننا. لقد أحسنت عندما نقلت شميد إلى بيل.
سار برلاخ إلى جانب الطريق وألقى نظرة إلى أسفل على بلدة تفان. لم يفصل بينه وبين التجمع السكني القديم سوى جبال الكروم. كانت الشمس قد غربت. الطريق ملتو بين المنازل كثعبان، وفي المحطة يقف قطار بضائع طويل.
ـ ألم يسمع أحد في البلدة الصغيرة شيئا يا كَلنين؟ إنها قريبة جدا، لا بد أن أحدا قد سمع طلقة الرصاص.
ـ لم يسمع أحد شيئا غير صوت المحرك الذي ظل يدور طوال الليل، ولكن لم يفكر أحد في وقوع مكروه.
- طبعا، ولماذا يفكرون في ذلك.
تطلع إلى الكروم، ثم تساءل:
ـ وكيف نبيذ هذا العام يا كَلنين؟
ـ جيد. يمكننا أن نجربه.
ـ هذا صحيح، أود أن أشرب الآن كأسا من النبيذ الجديد.
عندئذ اصدمت قدمه اليمنى بشيء صلب. انحنى وأمسك بين أصابعه النحيلة قطعة معدنية صغيرة تميل إلى الطول، وقد دهست مقدمتها. تطلع كَلنين وبلاتر في فضول إليه. قال بلاتر:
ـ طلقة مسدس.
مندهشا قال كَلنين:
ـ كيف استطعت ذلك يا سيادة المفتش!
رد برلاخ:
ـ مجرد صدفة.
ثم ساروا في الطريق الهابط إلى تفان.