يحصد بوتين في أوكرانيا.. ما زرعه في سوريا

بوتين لا يعرف كيف يخسر.

خسرت روسيا الحرب الأوكرانيّة. ستترتب على ذلك نتائج عدة على صعيد التوازنات الدوليّة في ظلّ تبخّر أحلام فلاديمير بوتين باستعادة امجاد الإتحاد السوفياتي. ليس معروفا بعد كيف ستتصرّف الإدارة الأميركيّة في حال تأكدت الهزيمة الروسيّة وتكرّست في المستقبل القريب. ليس معروفا أيضا كيف ستتصرّف الصين التي ستكون القوة الوحيدة القادرة على مقارعة اميركا في هذا العالم. كذلك، ليس معروفا كيف سيكون ردّ الفعل الإيراني. لكنّ الأكيد أنّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" تعيد ترتيب اوراقها الإقليمية في ضوء معرفتها أنّ هزيمة لحقت بروسيا في أوكرانيا. وهذا ما يفسّر إلى حدّ ما تقرّبها أكثر من الصين، وهو تقرّب عبّر عنه رعاية بيجينغ للمصالحة السعوديّة – الإيرانيّة في العاشر من آذار – مارس الماضي.  

تعود خسارة روسيا الحرب الأوكرانيّة إلى أنّها لم تكن مهيّأة لمثل هذه المغامرة العسكريّة، خصوصا أنّ فلاديمير بوتين لم يمتلك يوما عقلا سياسيا استراتيجيا يربط بين السياسة والإقتصاد من جهة والمعرفة العميقة بالتوازنات الدولية من جهة أخرى. خسر بوتين حربه الأوكرانيّة في سوريا قبل أن يخسرها في مكان آخر. بلغ الأمر أنّ رجالات النظام السوري باتوا يشمتون به، علما أنّه كان وراء انقاذ النظام من السقوط النهائي في خريف العام 2015.

يعطي فكرة عن الهزيمة الروسيّة أن رئيس مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين إتّهم رئاسة أركان الجيش الروسي بالمسؤولية عن سقوط "عشرات آلاف القتلى والجرحى" الروس في أوكرانيا، وذلك في رسالة تستهدف مباشرة وزير الدفاع سيرغي شويغو.

قال بريغوجين، الذي يقاتل إلى جانب الجيش الروسي مستخدما مجموعات من المرتزقة، في مقطع فيديو جديد: "سيتحمّلون مسؤولية عشرات آلاف القتلى والجرحى تجاه أمّهاتهم وأولادهم"، وذلك بعد قليل من إعلان عزمه على سحب مقاتليه اعتباراً من 10 أيار - مايو من باخموت حيث يخوضون القتال في الخطوط الأمامية. عزا الإنسحاب إلى عدم تلقّيه ذخائر من الجيش.

في فيديو سابق، وسط المعارك في باخموت وحرب الشوارع، أطلق بريغوجين تصريحات نارية، متهما شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، بأنهما وراء النقص الكبير في إمدادات السلاح للمجموعة، وهو نقص يصل إلى نسبة 70 في المئة مما تحتاجه من امدادات...

ليس كلام بريغوجين، الذي قاتلت قواته في مناطق عدّة خارج روسيا وأوكرانيا بينها سوريا حيث سيطرت في العام 2017 على حقول للنفط والغاز كانت في يد المعارضة، سوى دليل قويّ على الإنهيار الروسي في أوكرانيا.

من يذهب إلى سوريا لإنقاذ نظام أقلّوي، أخذ البلد إلى خمسة احتلالات، يستطيع الذهاب بكل سهولة إلى أوكرانيا من دون حسابات سياسية وعسكرية دقيقة من أي نوع. لم يدر بوتين أن الفارق بين سوريا وأوكرانيا كبير جدا، لا لشيء سوى لأنّ لا احد يريد محاسبته على ما ارتكبه في هذا البلد العربي، في حين أن سقوط أوكرانيا يعني سقوط أوروبا كلّها وعودة إلى أيّام الحرب الباردة.

تكمن مشكلة الرئيس الروسي في الوقت الحاضر في أنّه لا يستطيع التراجع عن التصعيد لأسباب داخلية روسيّة قبل أي شيء آخر. لا يزال يعتقد أنّ لديه مستقبلا سياسيا بدل التفكير في كيفية الخروج من السلطة وتحمّل المسؤوليات الناجمة عن الكارثة الأوكرانيّة. في النهاية، ليس الكلام الروسي عن مسيرتين استهدفتا الكرملين بهدف محاولة اغتيال بوتين سوى محاولة يائسة وبائسة، في آن، للدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة في شأن مستقبل أوكرانيا. ليس الكلام عن محاولة أوكرانيّة للتخلص جسديا من الرئيس الروسي بدعم مباشر من واشنطن سوى تعبير عن حال الإفلاس الروسيّة.

ليس ما يُظهر حال الإفلاس هذه اكثر من التصعيد الكلامي لسرغي لافروف وزير الخارجيّة وغيره من المسؤولين الروس الذي راحوا يتوعدون العالم في ضوء الهجوم المزعوم على الكرملين. كان الأجدر بهؤلاء وبالرئيس الروسي نفسه التساؤل عن الثغرة الأمنية التي مكنت مسيرتين الإنطلاق من داخل موسكو في اتجاه الكرملين. ليس معروفا بعد هل من علاقة بين المسيرتين والرئيس فولوديمير زيلنسكي الذي اختار الدفاع عن بلاده في وجه الغزو الروسي؟

كلّ ما في الأمر، في آخر المطاف، أنّ بوتين لا يعرف كيف يخسر. خلط بين أوكرانيا وسوريا غير مدرك أنّ القيم التي كان مفترضا أن يحافظ عليها في سوريا كان عليه أن يحافظ عليها في أوكرانيا أيضا. كان عليه استيعاب أنّ العالم تغيّر... بل كان عليه معرفة لماذا انتهى الإتحاد السوفياتي.

الأكيد أنّ ليس في الإمكان الدفاع عن السياسة الأميركيّة في كلّ وقت. لكنّ اميركا التزمت، أقله نظريا، قيما معيّنة مرتبطة بحريّة الشعوب والديموقراطيّة. في المقابل، لم يفعل الإتحاد السوفياتي منذ قيامه غير الدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية والقمعيّة في العالم. دافع بوتين عن نظام بشّار الأسد من منطلق أنّه نظام أقلّوي قمعي قبل أي شيء. هاجم أوكرانيا واعتدى على شعبها بسبب الرغبة في التحرّر من كلّ ما له علاقة بالقمع. رفض بوتين، الذي تذرع برغبة أوكرانيا في الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي، الإعتراف بأن فولوديمير زيلنسكي منتخب ديموقراطيا وأنّ بشّار الأسد ليس سوى نتاج انقلاب عسكري نفّذ في سوريا في العام 1963 ومهّد لإستيلاء الأقليّة العلوية على السلطة على مراحل وصولا إلى خلافة بشّار الأسد لوالده لدى وفاته في حزيران – يونيو من العام 2000. ثمة من يؤكّد أن شبه انقلاب عسكري حصل وقتذاك مكّن بشّار من الإستحواذ على السلطة.

ليس غريبا على من يدعم أنظمة من هذا النوع، باتت تحت الحماية الإيرانيّة، الذهاب إلى حرب مع أوكرانيا. يحصد فلاديمير بوتين ما زرعه في سوريا قبل أوكرانيا. الفارق الوحيد والأساسي أن أوروبا لم تشعر باي تهديد لها من سوريا... في حين هبت اميركا، في ضوء حرب أوكرانيا، إلى نجدتها وصنعت ما صنعته من افخاخ لفلاديمير بوتين وصورته!