'مرثيات وطن' تحقيق عميق واستفزازي حول الهوية الأميركية المعقدة

الكاتب الأميركي من أصل باكستاني آياد أختار يقدم لنا في روايته الصادرة صوتًا روائيًا يصف لنا بلدًا أفسدت فيها الديون حيوات العديدين وتسببت في انهيار المعايير الثقافية والأخلاقية التي تمت التضحية بها لآلهة المال.

تحمل رواية "مرثيات وطن" الكثير من عناصر السيرة الذاتية لمؤلفها الكاتب الأميركي من أصل باكستاني آياد أختار، حيث يشارك بطل الرواية اسم المؤلف وخلفيته ومسيرته المهنية، يواجه فيها القارئ مجموعة من الشخصيات التي لا تُنسى: والد أختار وهو طبيب مهاجر يدعم الحملة الرئاسية لدونالد ترامب، ووالدته امرأة حزينة تتوق إلى باكستان وزميلة في كلية الطب تتمنى لو تزوجت بدلاً من والد أختار.

يقدم لنا أختار في روايته الصادرة عن دار العربي بترجمة محمد عثمان خليفة صوتًا روائيًا يصف لنا بلدًا أفسدت فيها الديون حيوات العديدين وتسببت في انهيار المعايير الثقافية والأخلاقية التي تمت التضحية بها لآلهة المال، حيث أصبحت شخصية تليفزيونية هي الرئيس الجديد، وعاش المهاجرون في خوف من الترحيل، وعادت آلام الحادي عشر من سبتمبر من جديد ليعاني منها الوطن. ووسط كل ما يحدث، يحاول "أختار" أن يفهم ما يحدث ويجعله منطقيًا من خلال حكايته عن أهله المنحدرين من باكستان وغيرهم من المهاجرين، والذي يحاولون بدورهم أن يتأقلموا ويصبحوا أمريكيين.

يروي أختار القصص التي تتشقق وتتشعب وتنفي، أحيانًا تكون كوميدية، مثل زيارة حفل صوفي عبثي بقيادة وريثة نمساوية. وأحيانا تكون مأساوية بشكل مؤلم مثل حكاية الراوي لأحداث 11 ايلول/سبتمبر، حيث يبلل نفسه من الرعب بعد مضايقته من قبل رجل معاد للإسلام بينما ينتظر للتبرع بالدم في مستشفى سانت فنسنت. ولحماية نفسه من المزيد من الهجمات، قام بسرقة قلادة صليبية من متجر وارتدها لعدة أشهر، وهو تمويه يحمل أكثر من مجرد صبغة من العار الثقافي. صديقته الباكستانية الأميركية تصدم عندما يعترف لها بذلك بعد سنوات. هي لا تستطيع أن ترتدي صليبًا أبدًا.

لكن أكثر إبداعات أختار التي لا تُنسى هي والده، وهو شخصية أكبر من الحياة وأكثر ذكريات عزيزة عليها هي الفترة التي قضاها كطبيب لدونالد ترامب. إنه "معجب كبير بأمريكا" الذي يحتفظ بنسخة من "فن الصفقة" في غرفة المعيشة. وهكذا فإن الرواية تشكل تحقيقا عميقا واستفزازيا حول الهوية الأميركية المعقدة، حيث يقوم أختار بترتيب الأشخاص والمواقف بعناية لفضح خطوط الصدع داخل المجتمع الأميركي كاشفة عن ممارسات رأسمالية فوضوية وعنصرية ضد المسلمين الأميركيين.

يقول الكاتب "دوايت جارنر" الصحفي بجريدة "نيويورك تايمز" عن رواية "مرثيات وطن" أن لها نفس أصداء "جاتسبي العظيم" ويضيف "يقدم لنا أختار صوتًا روائيًا يصف لنا بلدًا أفسدت فيها الديون حيوات العديدين وتسببت في انهيار المعايير الثقافية والأخلاقية التي تمت التضحية بها لآلهة المال، حيث أصبحت شخصية تليفزيونية هي الرئيس الجديد، وعاش المهاجرون في خوف من الترحيل، وعادت آلام الحادي عشر من سبتمبر من جديد ليعاني منها الوطن. ووسط كل ما يحدث، يحاول أختار أن يفهم ما يحدث ويجعله منطقيًا من خلال حكايته عن أهله المنحدرين من باكستان وغيرهم من المهاجرين، والذي يحاولون بدورهم أن يتأقلموا ويصبحوا أمريكيين".

يشار إلى أن الرواية من أكثر الأعمال التي حققت نجاحًا وشهرةً وإثارةً للجدل في الولايات المتحدة الأميركية عام 2020 إن لم تكن الأنجح على الإطلاق. وقد تم اختيارها على رأس أكثر من عشرين قائمة للكتب الأكثر ترشيحًا للقراءة، كما فازت بجائزة الكتاب الأميركية لعام 2021، وجائزة جمعية مكتبة "ويسكونسن" الأدبية لعام 2021 أيضًا.

مقتطف من الرواية

افتتاحية: إلى أميركا

تعلمت على يد أستاذة جامعية اسمها "ماري موروني"، كانت تدرِّس لنا "ملفيل" و"إيمرسون"، والتي وصفها معلمها "نورمان براون" الشهير بأنها ألمع عقل في جيلها. وهي سيدة ضئيلة الحجم، في أوائل الثلاثينيات من عمرها، تشبه تمثالًا صنعه الفنان الإيطالي الشهير "رافائيل"، ولكن ذلك لم يكن مصادفة، (فوالداها هاجرا من "أوربينو" في إيطاليا)، وهي باحثة ذات اطلاع واسع مذهل. حتى إنها كانت تقتبس بسهولة من "إيداس" و"حنة آرنت" وحتى من "موبي ديك"؛ وهي مثلية. أنا لا أذكر هذه المعلومة سوى لأنها كانت تصر على توضيحها في كثير من الأحيان. وهي محاضرة مفوهة مثل سكين ألمانية حادة، بمقدورها أن تخلصك من تلك المادة الرمادية في دماغك، ومن ثَمَّ تصنع فيه أخاديد جديدة تنساب فيها أفكارك القديمة كلها. تمامًا كما حدث في صباح ذلك اليوم من فبراير، بعد أسبوعين من تنصيب "بيل كلينتون" رئيسًا لأول مرة عام 1993، خلال محاضرة عن الحياة في ظل الرأسمالية الأميركية المبكرة. رفعت "ماري" عينيها عن الأرض التي كانت تنظر إليها عادة وهي تتحدث، في حين اعتادت دس يدها اليسرى في جيب السروال الفضفاض، لتنظر إلى أعلى ثم تبدأ بالتحدث عن أمريكا وكيف بدأت كمستعمرة، وأنها ستظل كذلك، وأن أي مكان يُعرَف باسم من سلبه، إذ البحث عن الثراء هو الأساس، أما النظام المدني فمسألة ثانوية. إن الذات الأميركية هي الوطن الذي باسمه ومن أجل مصلحته، يستمر سلوك الافتراس، لكنه لم يعد وطنًا بالمعنى المادي للكلمة، بل أصبح وطنًا روحيًّا. تعوَّد ذلك الوطن مدة طويلة على عبادة رغباته، مهما كانت سرية، ومهما كانت مبتذلة، بدلًا من التشكيك فيها. قالت إن كلاسيكية احترام الأميركي لذاته توترت وسط هيمنة الاستلاب الوطني - على حد قولها - وقد عبَّرت مدة إدارة "ريجان"، بما عُرِفَتْ به من محاولات للسيطرة على الغير ونهبه، عن هذا الواقع الدائم للحياة الأميركية بوضوح وشفافية أكبر من أي وقت مضى.

كانت "ماري" قد أوقعت نفسها في بعض المشكلات خلال الفصل الدراسي السابق بسبب تصريحها بملاحظات مماثلة حول الهيمنة الأميركية في خضم حرب الخليج الثانية - "عاصفة الصحراء" - في الخليج. اشتكاها طالب في برنامج تدريب ضباط الاحتياط يدرس مادتها إلى الإدارة، وقال إنها تحرض ضد الجيش. وكتب عريضة وأقام حملة ضدها في اتحاد الطلاب. وبسبب ذلك، صدرت جريدة الجامعة ومقالها الافتتاحي "ضد ماري"، مع تهديدات بانطلاق مظاهرات ضدها. لكنَّ شيئًا لم يحدث، ولم تتأثر "ماري" بكل هذا، فعلى الرغم من كل شيء، كنا في أوائل التسعينيات، ولم تكن تبعات إشعال النار الأيديولوجية أو اتهامات إساءة استغلال السلطة جنسيًّا على النحو نفسه التي هي عليه اليوم. على أنني لم أعرف أن أحدًا وجد مشكلة فيما قالته ظهيرة ذلك اليوم. فالحقيقة هي أنني أعتقد أن الكثير منا لم يفهم بحق ما كانت ترمي إليه. أنا متيقن من هذا.

"عبادة الرغبة".. "انتفاخ تقدير الذات".. "مستعمرة لصوص".

في كلماتها قوة إنكار عظيمة، وتصحيح لإرث سرمدي من مباركة الذات الأميركية. كانت كلمات جديدة بالنسبة إليَّ. اعتدتُ أجواء الشعب الاستثنائي المبارَك من الرب التي سادت كل ساعة قضيتها في محاضرات التاريخ. "لقد بلغتُ سن الرشد ونحن في خضم عصر أمريكا الجاثمة على القمة والتي تتلألأ ليراها الجميع". كانت هذه من العبارات المجازية المجيدة التي تعلمتها في المدرسة، والتي لم أعتبرها مجازًا، بل حقيقة. رأيت حبًّا أمريكيًّا للخير يشع من نظرة "العم سام" العارفة بكل شيء في ذلك الملصق بمكتب البريد؛ سمعت الأميركيين في حلقات الضحك المعلبة لمسلسلات "السيتكوم" التي كنت أشاهدها كل ليلة مع والدتي، وشعرت بالأمن الأميركي والقوة الأميركية وأنا أقود دراجتي ماركة "شفين" Schwinn ذات العشر سرعات بين المنازل ذات الطابقين في حي للطبقة المتوسطة، حيث نشأت. وبطبيعة الحال، كان والدي من أشد المعجبين بأمريكا في ذلك الحين. لم يرَ مكانًا أعظم منها في العالم، ولا مكانًا آخر غيرها يتيح لك عندما تعمل أكثر أن تحصل في المقابل على المزيد، فتصبح أكبر. استمتع بكل لحظة وكل مكان فيها؛ التخييم في "تيتون"، قيادة السيارة عبر "ديث فالي"، الصعود إلى قمة "سانت لويس" قبل الهبوط في زورق نهري إلى "لويزيانا" لصيد "القاروس" في الخليج. كان يهوى زيارة المواقع التاريخية. لدينا صور لرحلات إلى "مونتايسلو" و"ساراتوجا" وإلى ذلك المنزل في شارع "بيلز" في "بروكلين"، حيث وُلِدَ الأخوان "كينيدي". أتذكر صباح يوم سبت في "فيلادلفيا" عندما كنت في الثامنة من عمري وأبي يوبخني لأنني أتذمر من المشاركة في جولة بها العديد من الزوار عبر قاعات قيل لي إن لها صلة ما بالدستور. وعندما انتهت الجولة، أخذتنا سيارة أجرة إلى حيث العتبات الشهيرة التي تؤدي إلى المتحف في "فلادلفيا"، وسابقني إلى قمتها، وإن تركني أفوز.. فقد كان يقلد "روكي"!

كان حب أميركا والإيمان الراسخ بتفوقها، الأخلاقي وغير الأخلاقي، عقيدة في منزلنا، وتعلمت والدتي ألا تناقشه في ذلك، حتى لو لم تشاركه حماسه بذلك القدر. مثلها مثل والديْ "ماري"؛ كما عرفت لاحقًا من "ماري" نفسها.. لم تجد والدتي أبدًا في نِعم بلدها الجديد ما يمكن أن يعوضها عن خسارة ما تركته وراءها. لا أعتقد أن والدتي شعرت يومًا بأنها في وطنها هنا. اعتقدت أن الأميركيين ماديون ولم تستطع فهم أسباب القداسة فيما اعتبرته عربدة أطلقوا عليها اسم الكريسماس. أحبطها أن الجميع يسألها دائمًا عن بلدها الأصلي ولم تنزعج أبدًا من نظرات الحيرة في أعينهم عندما تخبرهم عن بلدها الأصلي. الأميركيون جهلة بالجغرافيا والتاريخ. وأكثر ما أزعجها هو ما وجدته فيهم من تجاهل لأمور مهمة؛ ألا وهو الإنكار الأميركي للشيخوخة والموت. جاء أثر الانزعاج الكثير وتراكمه داخلها إلى ظهور ورم خبيث على مر السنين، وأن يصنع وحشًا مرعبًا أفضى بها إلى قبرها، في ظل إيمانها بأن التقدم في السن في هذه البلاد يعني انعزالها في نهاية المطاف وتلاشيها في وطن لا يشبه الوطن.

وعلى الرغم من ندرة تعبير أمي عن آرائها، كان لزامًا عليها أن تُعِدَّني بطريقة ما لفهم موقف "ماري" تجاه هذا البلد، لكنها لم تفعل. وما تعلمته في الإسلام لم يهيئني لرؤية ما رأت "ماري"، ولا حتى بعد أحداث 11 سبتمبر. أتذكر رسالة منها في الأشهر التي أعقبت ذلك اليوم المرعب من سبتمبر والذي غيَّر حياة المسلمين في أمريكا إلى الأبد، وهي رسالة من عشر صفحات شجعتني فيها على التحلي بالصبر، وأن أتعلم ما يمكنني تعلمه من المشكلات التي تنتظرني، وصارحتني بأنها تكافح في حياتها كونها امرأة مثلية الجنس في هذا البلد؛ ذلك الإحساس بالحصار، والتعدي المستمر على سعيها لأن تصبح أفضل، والأشواك التي تملأ طريقها المؤدي إلى الاستقلال الذاتي والأصالة، فهي ترى أن كل هذا مجرد حطب يشعل بوتقتها، ويستثير فيها الغضب المبدع، فيروض شعورها ويحررها من أي أمل في الأيديولوجية. ذكرتني بأن "أستغل الصعوبات لمصلحتي". كانت الصعوبات بمنزلة حجر الصوان الذي شحذ قدرتها على التحليل، والسعي وراء أسباب وكيفية ما تراه، والذي لن أراه وأتبينه بنفسي على مدار خمسة عشر عامًا مقبلة، هذا غير مأساة أن أكون مسلمًا في هذا البلد. لا، لن أرى ما رأته "ماري" إلا بعد أن أشهد الانزواء المفاجئ لجيل من الزملاء المرهقين بسبب متطلبات وظائف لم تمنحهم ما يكفيهم من المال، وهم غارقون في ديون رعاية الأطفال، وتعصف بهم اضطرابات لا علاج لها.. أبناء العم، ​​وأفضل صديق من المدرسة الثانوية، والذين انتهى بهم المطاف جميعًا مشردين في ملاجئ أو في الشارع، بعد أن طُرِدُوا من منازل لم يعودوا قادرين

في حياتي شيئًا كهذا من قبل. أو أعايش تلك اللحظات نفسها منذ ذلك الحين.