'جونتر غراس ومواجهة ماضٍ لم يمضِ' في رؤية متكاملة لسمير جريس
تحفل حياة وتجربة الروائي والقاص والشاعر الألماني الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1999، جونتر غراس بثراء كبير على مستوى رؤاها وأفكارها ونتاجها الإبداعي والأدبي الذي حقق شهرة عالمية واسعة، بفضل عمق معالجاته للقضايا الإنسانية وأيضا انحياز مواقفه السياسية والاجتماعية للعدالة، ودفاعه عن قيم المساواة والتسامح والسلام.
وهذا الكتاب الصادر عن دار الكتب خان "جونتر غراس ومواجهة ماضٍ لم يمضِ" للكاتب والمترجم سمير جريس، يشكل رؤية متكاملة لحياة وأعمال غراس متوقفا ومحللا لوجوهه شاعرا وروائيا ونحاتا ورساما وكاتب اسياسيا صاحب موقف، مسلطا الضوء على المحطات المحورية في حياته وأدبه على نحو كرونولوجي، والاهتمام اهتماما خاصا بالأعمال التي ترجمت إلى العربية، والتمعن في جودة هذه الترجمات مثل روايات " طبل الصفيح" التي نُشرت تحت عناوين مختلفة، و"قط وفأر"، "سنوات الكلاب"، و"مئويتي"، "في خطو السرطان"، ومسرحية "الطباخون الأشرار"، وسيرته الذاتية "تقشير البصلة".
يؤكد جريس أن المقولة التي لاحقت الشاعر أبوالطيب المتنبي تنطبق تماما على روائي ألمانيا الأشهر جونتر غراس الذي ملأ دنيا الأدب في ألمانيا وخارجها، وشغل الناس بأدبه ومواقفه السياسية، منذ أول أعماله رواية "طبل الصفيح"، وغراس هو الكاتب الحداثي والوجه الأبرز للأدب الألماني الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثر الكتّاب الألمان تأثيرا في الأدب العالمي، لذلك غدا غراس النموذج والمعلم بالنسبة إلى عديد من الأدباء في العالم.
تحت عنوان "بذرة ملحمة" يقول جريس أن الفن أصبح رسما ونحتا، محور حياة غراس بعد التحاقه بأكاديمية الفنون في دسلدورف. وبعد سنوات صعبة عانى فيها النحات الناشئ شظف العيش، وسكن خلالها في بيت تابع لمؤسسة كاريتاس الخيرية، تحسنت أحواله مع بداية الرخاء الاقتصادي في ألمانيا مطلع الخمسينيات، واستطاع لأول مرة في صيف عام 1952 السفر بالأوتوستوب إلى إيطاليا، بلد التماثيل، وفي العام التالي سافر إلى فرنسا، وفي رحلة العودة زار صديقة له في سويسرا، وأثناء تناول القهوة رأى مشهدا انحفر في ذاكرته، وأصبح حجر الأساس في شهرته اللاحقة. يقول الصحفي ميشائيل يورغس نقلا عن غراس "كانت الغرفة مزدحمة بأشخاص بالغين يتحدثون ويشربون القهوة ويأكلون الفطائر. وفجأة دخل صبي ومعه طبل من صفيح، ثم طاف في الحجرة وقرع الطبل دون أن يعير الكبار نظرة واحدة. سار في الحجرة مرة، مرتين، ثم اختفى." وهنا عثر غراس على بذرة أولى رواياته وأشهرها. ولم يكن لزيارة الصديقة السويسرية تأثير كبير على الروائي فحسب، بل على غراس الإنسان الذي تعرف هناك بزوجته اللاحقة، راقصة الباليه "أنّه مارغريتا شفارتس". وبسببها قرر الانتقال إلى برلين بعد أن قالت له إنها تنوي الالتحاق بإحدى مدارس الباليه هناك.
ويضيف "لم يقصر غراس كل جهده على الفن التشكيلي، بل راح يجرب قلمه في الشعر والمسرح، غير أنه لم يصب فيهما نجاحا يُذكر. وعن طريق الشعر دعي إلى حضور أهم اجتماع أدبي للمواهب الشابة، وهو ملتقى "جماعة 47" برعاية الناقد هانز فيرنر ريشتر. وسرعان ما أصبحت هذه المجموعة بمثابة عائلة له، وغدا ريشتر الأب الروحي لغراس. أما الأستاذ الأعظم الذي وضع النحات على بداية الدرب الروائي فهو ألفريد دوبلين (1878 – 1957) صاحب الرواية المشهورة "برلين – ألكسندر بلاتس." ومفلسا قرر غراس السفر مع زوجته "أنّه" إلى باريس، لأنها أرادت أن تستكمل تعلم الباليه هناك. وفي باريس واصل غراس تجاربه في الشعر والتمثيليات الإذاعية، وكان يبيع بعضها لمحطات الراديو، ما جلب له مكافآت مجزية كانت مصدر رزقه الوحيد. وفي تلك الفترة شرع في كتابة رواية القرن "طبل الصفيح". وفي باريس أيضا شاهد مبهور الأنفاس فيلم "الرجل الثالث" بطولة أورسون ويلز، ولاحظ أن الكاميرا تصور بعض الأحداث من منظور الصبي القابع في الأسفل مراقبا تصرفات الكبار. وهكذا أخذت شخصية أوسكار ماتسرات في التخلق والتشكل، إلى أن ولدت حية تأسر من يطالعها.
ويتابع جريس أن غراس ظل يبحث طويلا عن الشكل المناسب أو النبرة المناسبة لموضوعه الروائي الأول، ويقول إنه ألقى بالمخطوطات الثلاث الأولى لـروايته طعاما لنيران المدفأة، قبل أن يعثر على الجملة الأولى، وعندما وجدها انهار السد الذي كان يعوق تيار السرد، فتدفقت الكلمات والجمل لا يعوقها عائق. وسرعان ما أصبحت هذه الجملة من الافتتاحيات الشهيرة في الأدب الألماني الحديث "أعترف بأنني نزيل مستشفى للعناية والرعاية الصحية." لقد اختار غراس شكل الرواية البيكاريسكية، أو روايات الصعاليك، وكان اختيارا ذكيا أتاح له أن يوجه النقد إلى المجتمع الألماني والبورجوازية الصغيرة خلال فترة النازية عبر قزم خارج عن المجتمع، لا يأخذه أحد مأخذ الجد؛ قزم يتسلل إلى كل مكان، ويفعل البالغون أمامه ما يخجلون من فعله على الملأ. سردَ غراس الأحداث متعاقبة زمنيا على لسان بطله أوسكار، رغم أن هذا الشكل لم يعد حداثيا مثلما يقول أوسكار قبل أن يهم بكتابة قصة حياته: "يستطيع المرء أن يبدأ القصة من الوسط، ثم يسير بها متقدما، أو متراجعا إلى الخلف، بجرأة، مخلفا وراءه الحيرة والارتباك. ويمكن أن يبدو المرء معاصرا، فيلغي الزمان والمسافات كلها، ليعلن، أو يدع الآخرين يعلنون أنه قد حل معضلة المكان - الزمان، وكذلك يستطيع المرء أن يدعي، ومنذ البداية، بأن من المستحيل كتابة رواية هذه الأيام، لكن يراعه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال، بتسطير عمل لا نظير له، فيسجل سبقا أدبيا، ثم يتوج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية".
ويلفت جريس إلى أن غراس قسم روايته "طبل الصفيح" إلى ثلاثة كتب، الأول يمتد من عام 1899 حتى عام، 1938 ويتعرض إلى طفولة أوسكار وصباه وقراره إيقاف النمو في سن الثالثة. وينتهي الكتاب بوفاة أمه الحبيبة أجنيس. أما الكتاب الثاني فيتعرض إلى سنوات الحرب في ألمانيا، ويبدأ بحادث الهجوم على مبنى البريد البولندي، وهو الحادث الذي يشعل نيران الحرب العالمية الثانية. وخلال أحداث هذا الكتاب ينضم القزم أوسكار إلى فرقة موسيقية ترفه عن جنود الميدان بالعروض الفنية، ويقابل حبه الكبير، روزفيتا راجونا، التي تلاقي حتفها خلال الحرب. وفي نهاية الكتاب الثاني يحاول والد أوسكار، ألفريد ماتسرات، أن يبتلع الدبوس المعدني المطبوع عليه شارة النازية حتى لا يعرف الجنود الروس أنه من أتباع النازية، فيكاد يختنق، ثم يطلق جندي روسي عليه النار فيرديه قتيلا. ويمكن القول إن أوسكار قتل الأب، لأنه هو الذي أعطاه الدبوس عندما هاجم الجنود الروس الدار، فلم يجد الأب المحاصر مفرا من بلعه. بعد موت الأب، أو قتله، يتخلى أوسكار عن قراره عدم النمو، فيواصل النمو كي يتحمل المسئولية. وفي الكتاب الثالث نتابع حياة أوسكار بعد الحرب، وعمله كطبّال مشهور في دسلدورف، إلى أن يُتهم بارتكاب جريمة قتل، فيُحاكم، ولكنه يُبرأ، ويودع مصحة للأمراض العقلية والنفسية.
ويرى جريس أن غراس بشخصية القزم الرافضة عن وعي لقيم البطولة والعظمة، والفاضحة لزيف الكبار وأكاذيبهم، وجه نقدا لاذعا إلى مجتمعه في فترة النازية، وما أعقبها من محاولة الملايين التطهر من الذنب النازي عبر إنكار مشاركتهم فيه، أو ادعاء عدم معرفتهم بحدوث جرائم النازيين، أو إنكار حدوثها أصلا. عبر أوسكار - القزم الذي يتعمد ألا يصبح إنسانا "عاديا" – انتقد غراس المجتمع الألماني الذي سعى بعد الحرب بكل قوته إلى العودة بسرعة إلى الحياة العادية. فعبر مشاهد عديدة استطاع غراس ببراعة تصوير أجواء انسياق الألمان وراء غواية النازية، وتجسيد "عادية الشر" أو تفاهته على حد تعبير "هنّه أرنت". وكان غراس قد أكد أكثر من مرة أن أحد أهدافه في الكتابة منذ "طبل الصفيح" هو نزع السمات الشيطانية عن النازية، وإظهار النازيين بشرا عاديين، فخطورتهم تنبع من هنا.
ويؤكد أن مشاهد عديدة من "طبل الصفيح" ستظل عالقة في ذهن القارئ، وهي مشاهد تبين سهولة وقوع البشر ضحية إغواء الشر: هذا ما يرسمه لنا غراس في مشاهد قصصية صغيرة، بال خطابة أو مواعظ؛ مثلا، عندما يصبح ألفريد ماتسرات مؤيدا للنازية، أو سابحا مع السابحين في تيار النازية، فنراه ينزع صورة بيتهوفن عن الجدار فوق البيانو، واضعا مكانها صورة هتلر؛ أو عندما يصرخ أوسكار أمام واجهة عرض أحد المحلات، فتقف امرأة بعد سماع تهشم الزجاج، ثم تتردد، وتتطلع، وتمد يدها لتسرق حذاء تخفيه في حقيبة يدها؛ أو عندما يصرخ محطما واجهة عرض محل مجوهرات، مُتيحا لعشيق أمه، يان، أن يمد يده ليخطف عقدا تزينه ياقوتة جميلة. أمام واجهة العرض يتعرف الناس على أنفسهم، ويعرفون أنهم انتهازيون ولصوص، إذا سنحت لهم الفرصة.
ويشير إلى أنه من أكثر المقاطع التي تعبر عن عبثية الحرب وضعف الإنسان الفرد في مواجهتها هو فصل الهجوم على مبنى البريد البولندي: يحاول يان مع أوسكار وأحد المصابين الهروب من الموت بلعب الورق، والانتصار على المهاجمين الألمان عبر الاستمرار في اللعب. اللعب هنا، كوجه من أوجه الحياة، يقف في مواجهة الموت والحرب. وعندما يقتحم الجنود الألمان المبنى، ويسوقون يان كي يُعدم مع المقاومين، يرفع يده منتصرا ويلوح لأوسكار بورقة اللعب في كفه. من الصعب الإمساك بأوسكار الصغير، أو تلخيصه في صفات معينة، فهو مزيج من السذاجة والبراءة الطفولية والشر الخبيث الماكر. هذا البطل المضاد يكسر التوقعات دائما، يقاوم ـ على طريقته ـ النازية، لكنه يعمل طبالا في فرقة للترفيه عن جنود الجيش النازي؛ يكشف زيف الكبار، غير أنه يساعدهم على سرقة البضائع من المحلات. أوسكار يقود يان إلى حتفه، ويذهب إلى محل ماركوس، بائع اللعب اليهودي، فيراه قد انتحر قبل استيلاء النازيين على المدينة، فيسرق طبلة من دكانه. لم يكن أوسكار من أبطال المقاومة، وهو لا يدعي ذلك. إنه أيضا مدان، ومتورط في جرائم قتل، أو على الأقل كان المتسبب في موت آخرين، وإن ظلت تلك الجرائم بدون إثبات. لكن أوسكار عرف كيف يزعج ذوي السلطة، مثلا عندما يتسلل تحت منصة الاحتفال النازي، ويقرع طبله، فيفسد الإيقاع العسكري، ويجعل الفرقة الموسيقية تعزف فالس "الدانوب الأزرق" بدلا من المارشات العسكرية المعدة لاستقبال قادة النازيين، فيخرج الشبان لمراقصة الفتيات ببهجة على أنغام يوهان شتراوس!.