الباحث بشير زندال ينحاز لسترجة الأفلام على حساب الدبلجة
تشهد الدراسات في مجال الترجمة السمعية البصرية تطورًا كبيرًا في اللغات كلها. وقد بدأت في الخمسينيات في فرنسا، وتبعتها اللغات الأخرى. أما اللغة العربية فقد بدأت على استحياء في السنوات الأخيرة. فرغم أننا في العالم العربي نتلقى المجال السمعي البصري منذ أكثر من 80 سنة إلا أن الدراسات حول هذا المجال لا تزال ضئيلة ولا ترتقي إلى المستوى المطلوب، بل ومتواضعة؛ حيث لا نجد سوى بعض الدراسات المحكمة وبعض الرسائل الجامعية.
انطلاقا من ذلك تأتي أهمية هذه الدراسة "الدبلجة والسترجة مدخل إلى الترجمة السمعية البصرية" للباحث بشير زندال والصادرة عن مؤسسة أروقة والتي تناولت من خلال أربعة فصول الترجمة السمعية البصرية؛ من حيث نشأتها، وتعريفها، مع أهم ملامحها وأشكالها. ولمحة عن هذا المجال في العالم العربي، لتتطرق بعد ذلك إلى الدبلجة مع تعريفها، وتاريخها، وبداياتها، ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم أيضًا، فضلاً عن أنواعها مثل دبلجة المسلسلات والأفلام والرسوم المتحركة والوثائقية، وغيرها. كما تناولت الدبلجة إلى اللهجات كونها تُمَثِّل علامةً فارقة ومهمَّة في الدبلجة إلى العربية، وأيضا استراتيجيات الدبلجة وبرامجها ومراحلها.
وناقشت السترجة، مع توطئة تاريخية حول ظهورها، واستعمالها، وتناولت أنيس عبيد ومعامله، ثم أنواع السترجة، كما تناولت المسترجين الهواة الذين يتم تجاهلهم في الدراسات، رغم أن مجهوداتهم كبيرة وملحوظة في هذا المجال. وأوضحت برامج السترجة في الكمبيوتر، وتقنياتها؛ من نوع الخط وحجمه، ومكانه وزمنه ولونه. وكذا استراتيجيات السترجة، وأهمها المتمثل في التكييف. وأخيرا كشفت عن صعوبات وإشكاليات الترجمة السمعية البصرية بشقيها الدبلجة والسترجة، وسواء كانت تلك الإشكاليات لغوية أوتقنية.
يعرف زندال السترجة بأنها "نقل أو ترجمة للنص المنطوق أو المكتوب في الشاشة (كعناوين الصحف واللافتات التي تظهر في الأفلام)، وكتابته في جمل صغيرة تظهر في الغالب في أسفل الشاشة ما لم يكن المكان مشغولاً بكتابة أخرى أو تظهر عموديًّا على يمين الشاشة للغة اليابانية".
ويوضح أن السينما في العالم العربي بدأت صامتة حالها حال السينما العالمية، لكن حين بدأت السينما الناطقة بدأت الحاجة إلى سترجة الأفلام الأجنبية. وقد بدأت السينما الناطقة مبكِّرًا في العالم العربي، وكان أول فيلم ناطق بالعربية ظهر عام 1932م بعنوان "أولاد الذوات". وقد بدأت السترجة في العالم العربي في مصر مع بداية الأربعينيات؛ حيث "كانت تظهر ترجمة ركيكة مقتضبة على شاشة جانبية صغيرة ضعيفة الإضاءة؛ لأنها كانت تُكتب على شريط مستقل يُعرَض بواسطة فانوس سحري، ويتولى أحد موظفي السينما تحريك الشريط يدويًّا حسب سير حوادث الفيلم الذي يمرّ أمامه، وكان الموظف يخلط في المزامنة حتى يُصاب المتفرج بالدوار، فضلاً عن أنه كان مجبرًا على تحريك رأسه إلى اليمين واليسار، مرة لمشاهدة لقطة خاطفة من الفيلم وأخرى لقراءة السترجة". أما بالنسبة إلى الأفلام الأجنبية التي كانت تُعرَض في مصر فقد بدأت في هذه الفترة بالذات عملية السترجة، وكان هذا تطورًا كبيرًا تحققه السينما. وقد:"أصبحت الترجمة في الأفلام الأجنبية تُطبَع على الفيلم نفسه بعد أن كانت تظهر في الماضي على شاشة مستقلة إلى يمين الشاشة الكبيرة، وكانت هذه عملية متعبة لعيني المتفرج؛ لأنه كان يضطر طوال الوقت إلى نقل عينيه من شاشة الصورة على شاشة الترجمة".
ويشير زندال إلى أن السترجة أصبحت خيارًا أفضل للأفلام بديلاً عن الدبلجة التي انصبَّ الاهتمام فيها في مجال المسلسلات. يعود ذلك لتعدُّد اللهجات العربية. نجحت الدبلجة إلى اللهجات العربية كالسورية والخليجية؛ لأن المسلسلات عادة ما تتابعها الأسرة بشكل أوسع من الأفلام. وثقافة متابعة الأفلام عادةً ما تكون أكثر نخبوية من المسلسلات، وربما شريحة لا بأس بها من المشاهدين للأفلام يتقنون اللغة الأجنبية كالإنكليزية أو الفرنسية. كما أن الفرق بين تكاليف السترجة والدبلجة كبير. فالسترجة لا تحتاج إلا إلى مترجم (مسترج)، وعامل يقوم بضبط الترجمة مع الصوت. أما الدبلجة فبحاجة إلى فريق من الممثلين ومن تقنيي الصوت وغيرهم من تقنيي الدبلجة.
ويرى أن اللغة في المواد السمعية البصرية تختلف عن اللغة المحكية؛ لأن مستويات الخطاب تختلف في المجالين. وقد تناول لوسيان مارلو اللغة في الفيلم بأن لها ثلاثة أشكال:ـ اللغة في شكلها الصوتي: وهي تمثل الحوار الأصلي المحكي أو المنطوق في الفيلم والمقدم في المجال البصري للفيلم ـ اللغة المجازية: إنه النظام غير الشفاهي: ويأتي هذا الشكل من اللغة لإسعاف اللغة المحكية. ويتجلى حينما تكون اللغة المحكية غائبة. إنه الممثل حين يعبر عن فكرته بمساعدة الحركات والمظهر والإيماءات.بيد أنه يوجد شكل ثالث للغة يحمل على عاتقه مسئولية عناصر المعلومات المنقولة عن طريق الصورة السمعية، وتحويلها إلى شكل بصري، وإلا فإن المُشاهِد لا يكون بإمكانه إدراك الحوار. وهذا الشكل الثالث للّغة هو:اللغة في شكلها البصري: أيضًا نظام غير شفاهي؛ إنه الحوار الأصلي المعروض بشكل مضيء على أسفل الشاشة.وتسهم هذه الأشكال الثلاثة للغة في توصيل أفكار الشخصيات إلى المشاهد عن طريق الممثلين.
وحول مراحل السترجة يقول زندال "تمر السترجة بالعديد من المراحل؛ تبدأ باستلام المسترج للفيلم، وتنتهي بتسليمه النسخة المسترجة. وعادةً ما يتم إحضار السيناريو الأصلي مكتوبًا باللغة الأصلية إلى المترجم (المسترج)؛ كي يقوم بترجمته إلى اللغة الهدف. وبعد أن يقوم بعمله يرسلها إلى عامل مختصّ بدمجها مع الفيلم. تختلف هذه المراحل بحسب المعمل الذي يقوم بالسترجة. وقد تناولها لويكن بالتفصيل في عشر مراحل:
أولا التسجيل: تسجيل المعلومات الضرورية حول الفيلم المراد سترجته.
ثانياا لمراجعة: هي المرحلة الأولى عمليًّا في السترجة؛ حيث يتم استلام الفيلم ويتم مراجعته والوقوف على العناصر اللغوية فيه.
ثالثا كتابة النص: غالبًا ما يزوّد المسترج بالسيناريو أو النص الذي تم بناء الفيلم عليه. ولكن إن لم تتوفر هذه النسخة فيتوجب على المسترج في البداية كتابة الحوارات باللغة الأصلية كلها.
رابعا نسخة الاشتغال: يقوم المعمل بإنتاج نسخة يطبّق عليها السترجة.
خامسا التقطيع: هنا دور خبير المزامنة لتقطيع النص المكتوب باللغة الأصلية للفيلم إلى سترجات ومزامنتها مع صوت الممثل.
سادسا الترجمة/التكييف: تبدأ هنا عملية السترجة جملةً جملةً، وتكييفها؛ أي: تكثيف ما يمكن تكثيفه، وإسقاط ما يجب إسقاطه.
سابعا الإدخال: هي مزامنة السترجات مع النسخة المعمول عليها؛ للحصول على النسخة الأولية المسترجة وتسليمها للمراجعة.
ثامنا المراجعة/التصحيح: يقوم الخبير اللغوي بالوقوف على ما نقص أو على الأخطاء اللغوية، أو ما يحتاج تحسينه لغويًّا.
تاسعا المصادقة: بعد أن تصبح السترجة جاهزة، يتم إضافة المعلومات النهائية للفيلم مثل المعمل، وهذا يعني أن الترجمة قد انتهت.
عاشرا التسليم: وهي المرحلة الأخيرة الإجرائية لتسليم الفيلم مسترجًا للزبون أو للعرض.
ويلفت إلى أنه ربما يتم تنفيذ هذه المراحل في القنوات التلفزيونية الكبيرة والمؤسسات التي تقوم بعملها بنظام مرتب. ولكن في حالات الكثير من القنوات ربما يقتصر العمل شخصين فقط؛ هما المسترج، والتقني الذي سيدمج السترجات مع الفيلم. وهناك حالات جديدة يكون فيها العمل كله على شخص واحد وذلك في سترجات الهواة في المواقع التي تتيح تحميل الأفلام الأجنبية، مثل (ماي إيجي)، أو (عرب ليونز)، أو كمسترجين هواة يقومون بعملية السترجة والتقطيع والمزامنة، وتحميل الترجمة منفصلة إلى أحد مواقع تحميل السترجات مثل (subscene.com)؛ إذ يقوم المسترجون من لغات عدة بتجهيز السترجات كي تتلاءم مع كل النسخ المتاحة في الإنترنت، ثم يقوم الراغب في تحميل الفيلم باللغة الأصلية، ثم تحميل السترجة، ودمجهما معًا (يقوم المشغل في الكمبيوتر أو التليفون بدمج الترجمة مع الفيلم).
ويرى زندال أن الإشكاليات التقنية واللغوية للسترجة تظهر إشكالية متابعة الفيلم؛ إذ إن متابعة السترجة قد تُضْعِف مستوى متابعة الأحداث كأن يكون المشاهد مشغولاً بقراءة النص فتقوم عيناه بالجري وراء النص المكتوب لفهم ما يدور وما إن تحاول هاتان العينان العودة إلى المشهد حتى تأتي جملة جديدة مكتوبة فتعود إلى النص للقراءة، وبهذا يتشتت المتلقي بين الاستمتاع بالمشهد (الذي كلف المخرج كثيرا أو مختص الديكور الكثير من الوقت) وبين متابعة النص لفهم ما يدور في الفيلم وقد يلاحظ هذا التشتت في أفلام الحركة التي تكون فيها بعض المشاهد مقسمة في أجراء أقل من الثانية هذا ما يجعل الرسالة (message) المتمثلة في الفيلم كوحدة كاملة تصل مشوشة أو ناقصة، وحين يكون هنالك حوار مسترج فإن المتلقي قد يخسر المتعة الكاملة في متابعة النص على حساب الصورة أو الاستمتاع بالصورة على حساب النص. أما في البرامج الوثائقية فتخفّ مسألة جريان العينين بين النص والصورة وإن كانت المشكلة قائمة.
ويخلص زندال في كتابه إلى أن عملية الدبلجة والسترجة أصعب من بقية أنواع الترجمة لدخول عوامل تقنية لا يمكن أن ينجح العمل لو تم التهاون بها؛ كالتزامن والتكييف. وتشكل الخبرة المعملية (معامل السترجة أو الدبلجة) صعوبة يتوجب على المسترجين والمدبلجين الاهتمام بها. كما تظل الرقابة المؤسسية والرقابة الشخصية من المترجمين إحدى أهم سمات الترجمة السمعية البصرية؛ ذلك أن مَن يتعامل مع هذا النوع من الترجمة أكثر بكثير ممن يتعامل مع الأنواع الترجمية الأخرى.
فالكتاب المترجم مهما بلغ عدد قرائه (مع علمنا بأزمة القراءة في المعرفة العربية)؛ فإنه لن يصل إلى حلقة واحدة من المسلسلات التركية. فالحلقة الأخيرة من مسلسل "نور" الشهير بـ(نور ومهند) شاهدها 85 مليون مشاهد عربي. كما يشاهد ملايين العرب الأفلام المسترجة يوميًّا في القنوات. فهذه الشريحة الواسعة جدًّا أجبرت المترجم/المسترج/المكيّف على اتباع آليّات خاصة تجعل نُصْب عينيها العائلة العربية التي تجلس أمام التلفاز كل يوم لمشاهدة الإنتاج السمعي البصري. وبالنسبة إلى الباحثين في هذا المجال فيتوجب عليهم ليس فقط الإلمام باللغة الأجنبية، ولكن أيضًا يتوجب عليهم المعرفة التامة بالأدوات والآلات وبرامج الكمبيوتر التي تساعد في إنتاج الدبلجة والسترجة. وربما كانت هذه الجزئية إحدى النقاط التي جعلت الباحثين يتجنّبون هذا النوع من الدراسات. يحصل ذلك في الترجمة الآلية التي هي الأخرى ما زالت الدراسات فيها ضئيلة؛ لأن المتخصصين في الترجمة عادة لا يفقهون شيئًا في البرمجة الحاسوبية، والعكس أيضًا، فالمتخصصون في البرمجة عادةً لا يعرفون شيئًا عن نظريات الترجمة واللسانيات. ولهذا يتوجب على الدارس للترجمة الآلية التعمُّق في المجالين. وهو ما ندر في عالمنا العربي.كما عرفنا من الكِتاب أن الدراسات العربية عمومًا ما تزال ضعيفة في هذا المجال؛ ذلك أن المراجع بالعربية قليلة.
كما أنه لا يوجد دراسة أجنبية مترجمة إلى العربية عن مجال الترجمة السمعية البصرية. وهذا أيضًا يُعتبر قصورًا لدى المترجمين المهتمين بترجمة دراسات الترجمة.