ناقد عراقي يغوص أكاديميا في تمثلات الهوية في روايات عبدالهادي سعدون
يعتبر مفهوم الهوية من بين المفاهيم المُبهمة، فقد ندعي في بعض الأحيان أننا نحيط بهذا المفهوم، لكن سرعان ما نكتشف أننا لا نعرف أي شيء عنه، فمفهوم الهوية مفهوم ترحالي، فقد نجده في عدة مشارب معرفية متعددة؛ مثلا: في المنطق والميتافيزيقا الانثروبولوجيا، والعلوم الحقة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا وكذلك الأدب. انطلاقا من هذه الرؤية جاءت أطروحة الباحث والناقد العراقي سلوان إحسان داود الصالح "تمثلات الهوية في الرواية العراقّية أعمال عبدالهادي سعدون أنموذجا" والتي نال بها على درجة الماجستير أخيرا.
أكد سلوان أن الهوية عند عبدالهادي سعدون تشير إلى الوجود المنفرد الذي لا اشتراك فيه، فرواية "متنزه الحريم" استطاعت أن تصور الهوية خير تمثيل، وكان العنوان منسجما مع المضمون، عرض فيها الكاتب كل أشكال الهوية لحظة نشأتها حتى اغتصابها بأشنع الطرق، وهذه الرواية ما هي إلا انعكاس لواقعه العراقي لحظة حكم صدام حسين، والويلات التي كابدها الشعب العراقي أثناء فترة حكمه، كما صورت الاغتراب والمنفى الاختياري.
وفي روايته "تقرير عن السرقة" استطاع أن يبني من الظاهر العمق وأن يركز على التقاء السطح بالباطن فهي على المستوى الظاهري للكتابة السردية توثيق لعملية سرقة كمبيوتر محمول خاصة بالكاتب الروائي لكنها في الواقع ليست سرقة كمبيوتر بل هي تجل أو انعكاس لسرقات أخرى يخفيها السرد وتظهر للقارئ الواعي . إن جدلية العلاقة بين السرد وسارده فهو الذي يقدم سرده ويقوم بعملية السرد من خلال تقديم الشخصيات والأحداث والطقوس والأمكنة معتمدا على وجهة نظره فهو منتج الرواية وهو صانع القصة وبالتالي هو المقدر لهيئة وكافة حيثيات قصته.
وقال إن سعدون في رواياته كان ساردا لتفاصيل بلاده العراق ومصورا حالها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، مرمزة وغير مرمزة، فهو في رواياته يسرد سردا موضوعيا مخرجا أناه، وقد استطاع من خلال ذلك السرد الموضوعي أن يمنح لنفسه الحرية في الكلام دون أن يلام وكل ما كان يرغب في قوله نسبه لـ "الرمز" (الكلب) العراقي، وقد أصاب واستكاع أن يحقق النجاح في إبداعاته.
عُني سلوان في أطروحته التي جاء في مقدمة تنظيرية وتمهيد، وثلاثة فصول وعشرة مباحث، انطلاقا من عرض مفهوم الهوية وكيفية تشكل عناصر الانتماء، ومرورا بقراءة التمثلات العاطفية للهوية في روايات سعدون وحصرها في ثلاث روايات "مذكرات كلب عراقي، تقرير عن السرقة، متنزه الحريم" وانتهاء بمفهوم المكان في الهوية العراقية وشخصيات عبدالهادي سعدون للمكان.
ورأى سلوان أنه كان هناك انشطارا في المتن الروائي في رواية "تقرير عن السرقة" بين الظاهر والباطن المخفي، فظاهر الرواية يشبه الروايات البوليسية السرقة وتداعياتها، لكن المستوى العميق يكشف الصراع الحاد بين الذات الأولى (الوطن) والذات المغتربة. الانشطار على مستوى الُأسرة الزوج عراقي والزوجة إسبانية مدريدية. انشطار ذات الراوي وضياع هويته وتشتتها بني وطنه العراق وبين مغتربه إسبانيا.
وقال إن سعدون رسم في رواياته الهوية وتمثلاتها من الاختلاف إلى التماثل، صورها لنا منذ بداية ولادتها مرورا بلحظات غياب أو محاولة طمسها، إلى اغتصابها كما حصل في بلده العراق ومع العراقيين فهي وجه وتمثل آخر للعراق وما آل إليه لكن بأسلوب سردي قصصي شيق. لقد نوّع الشاعر في استخدامه العواطف لكننا نجد أن الخوف والألم كانا المسيطرين، وهما انعكاس للحقيقة المرة التي كان يعيشها العراقي في بلاده، وأسقطهم الكاتب بطريقة فنية استطاعت جذبنا والتأثير فينا حتى إن بعض العبارات نكاد نستذكرها ببساطة من شدو وقعها. ومن جانب آخر بنيت أحداث الروايات الثلاثة على ثنائية الذاكرة والنسيان، فإذا كانت الذاكرة تقدم لنا أشياء بوصفها انتمت للزمان الماضي فإن النسيان هو مفهوم مضاد للتذكر يحاول من خلاله الكاتب أن يتجاهل أحداث وينساها أو يتناساها، وبين النسيان والتناسي فرقا. إن الذاكرة والنسيان ناظمان رئيسان لمفاصل الروايات المتشكلة، وهما تقانة ظاهرة على مجمل تقانات السرد في روايات سعدون.
وأشار سلوان إلى أن الوصف كان جزءا أساسيا من السرد، وبما أن المكان جزء ومكون مهم منه، فوصف المكان له دوره البالغ في روايات سعدون من حيث أن وجوده مختلف عن مثيله في باقي الفنون السردية. إن الوصف المكاني كان له دورا في توضيح مجريات الرواية أولا ثم الأمكنة التي وقعت فيها الرواية ثانيا، فلولا عنصر الوصف لما اتضح المكان بأبعاده ولظل مكانا مبهما غامضا لم ترفع عنه علامات اللبس.
يجمع عبدالهادي سعدون بين كتابة القصة القصيرة والرواية والشعر، من مجموعاته القصصية "اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر"، "إنتحالات عائلة"، " توستالا"، وفي الشعر له " تأطير الضحك"، "ليس سوى ريح"، "عصفور الفم"، "دائماً"، وله في الرواية "تقرير عن السرقة"،"مذكرات كلب عراقي"، "متنزه الحريم"، و"كنوز غرناطة" رواية للأطفال، "العودة إلى الأرض (رواية خيال علمي)، وفي مجال الترجمة فله عشرات الترجمات منها " أشخاص الفعل؛ منتخبات من الشعر الإسباني المعاصر"، رسائل إلى الأب" للويس رفائيل"، "أغنيات إلى الطير"لرافائيل ألبرتي، "الحجر ليس بريشة"لبيثنته أليكساندره، "مائة قصيدة وقصيدة من الشعر الإسباني الجديد"، "الاغاني الغجرية"لغارثيا لوركا، "من سيتجول في حديقتي" منتخبات شعرية لخوان رامون خمينث، "بارتلبي و صحبه" روايةلبيلا ماتاس، "شجرة منكسرة في درب ابيض" منتخبات شعرية لأنطونيو ماتشادو، وهذا كله فضلا عن ترجمات من اللغة العربية للإسبانية من بينها "عراقيون غرباء آخرون، أنطولوجيا الشعر العراقي الجديد"، شعر أشعار نساء العراق الشعبية، دراسة وترجمة". والغناء والجرح: دراسة نقدية في شعر نساء العراق".
ومن جانب آخر يذكر سعدون أن ولد في عام 1968، في مدينة بغداد (العراق)، ويقيم في إسبانيا منذ نهاية عام 1993، حيث يعمل أستاذ مادة اللغة العربية والأدب في جامعة مدريد المركزية (كومبلتنسه). وهو حاصل على درجة الدكتوراه من كلية الأدب والفلسفة من جامعة مدريد أوتونوما، وبكالوريوس لغة وادب اسباني، كلية اللغات، جامعة بغداد، عمل أستاذا محاضرا لمادة الأدب العربي في جامعة مدريد المستقلة 2008 ـ 2010، وأستاذا اللغة العربية، المدرسة الدبلوماسية ـ مدريد 2023، ومختصا بالأدب واللغة الإسبانية. ومن ثم فهو يجمع بين العمل بالتدريس والترجمة والنشر، فقد نشر عشرات البحوث العلمية باللغة العربية والإسبانية في شؤون الأدب واللغة في مجلات علمية محكمة، وأسس وأدار مجلة ومنشورات ألواح ما بين 1997 حتى 2004.(رفقة الكاتب محسن الرملي)، وأشرف على منشورات (آلفالفا Alfalfa ) الإسبانية المختصة بترجمة ونشر الأدب العربي منذ عام 2006. وهو المشرف الأدبي لسلسلة آداب عربية (LetrasÁrabes) لدى دار نشر بيربوم الإسبانية، المختصة بترجمة ونشر الأدب العربي المعاصر والكلاسيكي منذ عام 2015 وحتى اليوم.
ويدير سعدون مهرجان شباط الشعري العالمي ومقره مدريد منذ عام 2016. ومستشار أدبي لعدة مهرجانات أدبية إسبانية وأميركية لاتينية مثل مهرجان مديين في كولومبيا، أصوات حية في طليطلة إسبانيا، ومهرجان مدريد الشعري الدولي.نال جوائز أدبية مختلفة منها: جائزة ادب الطفل العربي 1997، جائزة أنطونيو ماتشادو العالمية للشعر 2009، جائزة مدينة سلمانكا الإسبانية للتميز الأدبي 2016، جائزة الترجمة الأدبية باللغة الإسبانية (مارثيلو ريس) 2018. وقد تُرجمت العديد من نصوصه ونشرت في كتب ومجلات و دوريات مختلفة إلى اللغات التالية: الإسبانية،الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية،الفارسية،الكردية، التركية، الكاتلانية، الغاليثية، الإيطالية، المقدونية، الصربية وغيرها.